الجسد أداة هوان أو كرامة
المتروبوليت بولس يازجي مطران حلب والإسكندرون وتوابعهما
“ليس الجسد للزنى بل الجسد للربّ والربّ للجسد”
تمسّ رسالة اليوم مباشرة موضوع الابن الضال، الذي بدّد حصّته من الغنى الأبويّ مع الزواني. وبكلمات قليلة يلخّص بولسُ الرسول كلَّ مفهومنا المسيحيّ للجسد ولحاجاته ولدوره في حياتنا الإنسانيّة.
يُلاحَظ من البداية أن أسلوب بولس المقارن في الرسالة يُعطي وضوحاً خاصاً لبعض الكلمات؛ فهو يستخدم كلمتَين: الجوف (البطن) والجسد؛ وكأنّه يتكلّم عن شيئَين مختلفَين! إذن يتكلّم بولسُ عن وظيفتَين للجسد، أو استخدامَين له: فيصف الاستخدام الأوّل بعمل الجوف، أي ما يخصّ الأطعمة والملذّات…، وهذه كلّها سوف يبيدها الله. أمّا الاستخدام الثاني فهو “الجسد” (وفيه بطن ويحتاج لأطعمة ويتناولها)، ويعني، في لغة بولس هنا، جسدنا في وظيفة ثانية، يصفها بأفضل الكلمات.
فهذا الجسد هو هيكل الله وهو للربّ والربّ له وسيمجّده. إذن يجري الكلام هنا فعلاً عن الجسد ذاته (جوف- جسد) ولكن في استخدامَين مختلفَين. لذلك يستخدم بولس العبارات نفسها باستبدال الكلمات فيقول: “إنّ الأطعمة للجوف والجوف للأطعمة، وسيبيد الله هذا وتلك”
ثم: “أمّا الجسد فللربّ والربّ للجسد،… وسيقيمنا نحن أيضاً بقوّته”. إذن يمكن للجسد أن يُستخدم لوضعيّة سوف يبيدها الله وأن يُستخدم لوضعيّة ستتمجّد، فكما يمكنه أن يكون أداة هوان يمكنه كذلك أن يصير أداة مجد وكرامة. فما هي تلك الوضعيّة وهذه؟
لا شكّ أن استخدام كلمة “جوف” تريد أن تشير إلى طريقة حياة لا يهمّها إلاّ إشباع الجوف من الأطعمة وإتمام الرغبات والنـزوات. فالأطعمة والرغبات الجنسيّة هي حاجات طبيعيّة فعلاً، لكن هذه الحاجات ليست الغايات!
وهذه كلّها عندما تستخدم لإشباع الحاجة تكون طاهرة، ولكنّها لما تصير من أجل إشباع الرغبة تدخل في خدمة “الجوف”، أي الحياة الدنيويّة، التي سيبيدها الله. لذلك يعترف بولس هنا بضرورة الأطعمة لكنّه يُسقطها من حيّز الغايات إلى حيّز الحاجات العابرة التي لن تستمرّ مع الجسد الذي سيمجدّه الله، إنما ستنقضي مع الجسد الذي سيعود إلى التراب.
كان البعض- أيّام بولس- يظنّون أنّ إشباع “الجوف”، أي الامتلاء من الأطعمة وإشباع كلّ رغبة جنسيّة في الجسد هو أمر طبيعيّ، عاديّ، ولا حُكم عليه، فهو في ناموس الحياة وتتطلّبه حياة الجسد (الجوف). فالزنى هو فعل طبيعيّ بالنسبة لهم وحركة بيولوجيّة لا شرّ فيها ولا خير. لكن بولس يردّ هنا عليهم دون أن يحتقر هذا الجسد.
فالجسد ليس أدنى من النفس ويجب التخلّص منه. لأنّ بولس يصوّر الحياة الإنسانيّة ضمن إطار روحانـيّ غير واقعيّ.
إنّ حاجات “الجسد، هي حقيقة في الكيان البشريّ. والإنسان ليس كائناً سجيناً في جسده، بل حياته في جسده ومنه، وبجسده هذا يعبّر عن معنى حياته، فيمكنه هكذا أن يعتبر هدف حياته الأطعمة والرغبات، ويحدُّ غاياته الإنسانيّة في حاجاته هذه.
ولا تعود لدى هذا الإنسان من مسؤوليّة ولا من هدف إلاّ إشباع هذا الجسد! والإشباع هنا لا يعني سدّ الحاجة، وإنّما الامتلاءَ من الأطعمة إلى حدّ النّهم بدل الشبع، وإشباع الرغبات الجنسيّة ليس لحدّ العلاقة الإنسانيّة وإنّما إلى حدود العنف. إنّ هذا الجسد (طريقة حياة) لا يرث ملكوتَ الله (1كور15، 50).
إنّ حاجات الجسد الحقيقة الوجوديّة، حين تحقَّق بأسلوب آخر غير الإشباع الأنانـيّ، أي حين نمارسها في حدّ الحاجة فعلاً وليس في إطار التهافت، حين تبقى حاجة ولا تغدو غاية، عندها تكون طاهرةً وعفيفة.
وآنذاك يصير الجسدُ للربّ والربُّ للجسد، ويحيا الإنسانُ في جسده هذا مانحاً إيّاه حاجاته، ولكن بدل أن يكون هذا الجسد معبداً لكلّ آلهة النـزوات، من شراهة وزنى والعنف بكلّ أنواعه، يصير هيكلاً للروح القدس.
القانون الروحيّ، لدى بولس لجعل الجسد أداةَ كرامةٍ هو: “كلّ شيء مباح لي ولكن ليس كلّ شيء يوافق”، وهذا ما يعنيه تماماً “الصوم”! فنحن نستخدم كلّ شيء ليس بشكله المباح لكن بإطاره الموافق. أَمُباح لي أن آكل ليس لحدّ الشبع ولكن لحدّ الانتفاخ؟ نعم مباح، لكنّه غير موافق.
لأنّ هذا الجسد حين يجعل حاجاته ثقلاً عليه لا يمكنه أن يصير هيكلاً للروح، بل سيكون آنذاك في العنف. هكذا، يمكن للجسد حين نخدمه في عفّة، والعفّة هي طرح الزائد وغير الضروريّ، أن يصير أداةَ جهادٍ لاقتناء الروح، فيغدو هيكلاً له.
لهذا يقول بولس الرسول “أتمِّمُ في جسدي ما نقص من آلام المسيح في جسده“،ويقول “الآن يتعظّم المسيح في جسدي“، حين صارت قيوده وآلامه مدعى للشهادة والبشارة من أجل المسيح.
لا يعبّر الإنسان عن حبّه لله “روحيّاً” فقط بالمعاني، إنّما جسديّاً، أي بالسجدات والأصوام. الإنسان المترفّه جسديّاً لن يعرف الله روحيّاً. الجسد هو أداة العبادة، فالجسد غير العابد بالعفّة لا يمنحنا روحاً ولا حياة، بل يُدرجنا بحياة “الجوف” التي تتمحور حول الأطعمة والرغبات، وهذه وتلك سيبدّدها الله. لولا أنّ الجسد يجوع فكيف يمكننا أن نصوم؟
ولولا أنّه يشتهي كيف نتعفّف؟ لولا الحاجات والرغبات لما كان هناك جهاد عفّة!
إذن، ما هو المعيار لمعرفة ما هو “موافق”؟ وأين نعرف أن الحاجة قد تمّت وأن ما بعد ذلك الحدّ هو الشهوة؟ وما هو المؤشّر الذي ينبّهنا إلى أن الجسد الآن هو هيكل للروح أو بدأ يصير جوفاً للأطعمة؟
أهمّ ما في الإنسان حريّته وهي موجّه حياته الروحيّة. لا يوجد شيء سيّئ في الدنيا إلاّ ما يستعبدُ الإنسانَ. الإنسان الحرّ كائن يطير إلى السماء، لكن أثقال الرغبات تقبض عليه. يمكننا الأكل بحريّة ولكن للحدّ دون أن نفقدها. يمكننا أن نستخدم أي شيء للحدّ الذي بعده يبدأ يتسلّط علينا، هناك علينا أن نتحرّر منه لكي نبقى أحراراً.
بهذا المعنى قال الربّ: “إن أعثرتك عينك اقلعها لأنّه أفضل لك أن تدخل السماء وأنت بعين من أن تدخل نار جهنّم“. إنّ خط الإنذار الذي ينبّهنا إلى ضرورة الترفع عن شيء والتخلي عنه هو الحدّ حين يبدأ هذا الشيء يستهوينا بدل أن يخدمنا! لأن هوانا الحقيقيّ يجب أن يكون حبُّ الإلهيّات، والباقي كلّه لخدمة الحاجات. المطلوب أن يبقى القلب للربّ، والقلب هنا يعني غايات الإنسان وأشواقه.
ليس الجسدُ للزنى بل الجسد للربّ. إذا كانت حاجات هذا الجسد توّلد فينا الجوع فإنّنا سوف نشبع الجوع فقط ونحافظ على الجسد بالصوم للربّ، وإذا كان الجسد يحملُ رغباتٍ جنسيّة فإن المسيحيّ يهذّب الجنس في الزواج ويحافظ على العفّة. نعطي للجسد كلّ حاجاته لكن دون أن تتسلّط هذه على غاياتنا، آمين.
Discussion about this post