ميلاد الرب يسوع 2007-2008 – المطران بشارة الراعي
الثلاثاء 25 كانون الاول2007
ميلاد الرب يسوع
لقاء الله والإنسان
من إنجيل القديس لوقا 1/ 1-20
“قال لوقا البشير: في تلك الايام، صدر أمر من اغوسطس قيصر بإحصاء كل المعمورة. جرى هذا الإحصاء الاول، عندما كان كيرينيوس والياً على سوريا. وكان الجميع يذهبون، كل واحد الى مدينته، ليكتتبوا فيها. وصعد يوسف من الجليل، من مدينة الناصرة، الى اليهودية، الى مدينة داود تدعى بيت لحم، لانه كان من بيت داود، وعشيرته، ليكتتب مع مريم خطيبته، وهي حامل. وفيما كانا هناك، تمت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر، وقمتطه، واضجعته في مذود، لانه لم يكن لهما موضع في فاعة الضيوف.
وكان في تلك الناحية رعاة يقيمون في الحقول، ويسهرون في هجعات الليل على قطعانهم. فاذا بملاك الرب قد وقف بهم، ومجد الرب أشرق حولهم، فخافوا خوفاً عظيماً. فقال لهم الملاك: لا تخافوا! فها انا ابشركم بفرح عظيم يكون للشعب كله، لانه ولد لكم اليوم مخلص، هو المسيح الرب، في مدينة داود. وهذه علامة لكم: تجدون طفلاً مقمطاً، مضجعاً في مذود!”. وانضم فجأة الى الملاك جمهور من الجند السماويين يسبحون الله ويقولون: ” المجد لله في العلى، وعلى الارض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر”.
ولما انصرف الملائكة عنهم الى السماء، قال الرعاة بعضهم لبعض: “هيا بنا، الى بيت لحم، لنرى هذا الامر الذي حدث، وقد أعلمنا به الرب”. وجاؤوا مسرعين، فوجدوا مريم ويوسف والطفل مضجعاً في المذود. ولما رأوه اخبروا بالكلام الذي قيل لهم في شأن هذا الصبي. وجميع الذين سمعوا، تعجبوا مما قاله لهم الرعاة. أما مريم فكانت تحفظ هذه الامور كلها، وتتأملها في قلبها. ثم عاد الرعاة وهم يمجدون الله ويسبحونه على كل ما سمعوا ورأوا، حسبما قيل لهم”.
**
حدث الميلاد حدث محدد في تاريخ البشر. وقد اصبح البداية لعهد جديد هو حضور الله في التاريخ البشري، ينيره ويوجهه الى المجد والسلام والرجاء. مع الرعاة سارت البشرية تبحث عن الكلمة الذي ينير دروبها، ويجيب على تساؤلاتها، ويبلغ بها الى الخلاص.
اولاً، شرح نص الإنجيل
1. حدث الميلاد
” ولد اليوم لكم المخلص الذي هو المسيح الرب، في مدينة داود” ( لو2/11).
الإله له، ابن الله، صار انساناً في زمان ومكان وأسرة محددين. إنه الحدث التاريخي الاساسي الذي يليعمل الخلق. هو عمل الخلاص او الخلق الثاني والجديد.
أ- الزمان محدد بعهد اغسطس قيصر على رأس الامبراطورية الرومانية، واثناء ولاية قوريناوس حاكم المنطقة الجغرافية المعروفة بسوريا. اغسطس قيصر هو الامبراطور الروماني Octaviusابن شقيق قيصر ملك روما ( 78-44 قبل المسيح) وابنه بالتبني، ولذا يحمل اسم ” قيصر.” اما اسم “اغسطس” فهو لقب ناله من مجلس الشيوخ سنة 27 قبل المسيح، من بعد ان كسر Antoniusفي معركة Actium سنة 31، ووحّد الاميراطورية الرومانية، بعد ان كانت اثنتين: الغربية بقيادةOctavius والشرقية بقيادة Antonius. دام عهد Octavius الذي اصبح اسمه اغسطس قيصر من سنة 31 قبل المسيح الى سنة 14 بعد المسيح. انه مؤسس الامبراطورية الرومانية، وحاكم العالم المعروف، فكان عهد السلام الداخلي والانماء الاقتصادي والثقافي واعادة الترميم الشامل؛ واعلن اغسطس قيصر السلام العالمي، فكرس له مجلس الشيوخ ” مذبح السلام” ( Ara Pacis) سنة 13 قبل المسيح؛ وفي عهده نالت روما لقب “سيدة العالم “Caput Mundi). وهو الذي امر باحصاء المسكونة كلها بين سنة 7 و6 قبل المسيح. في هذه الاثناء ولد ابن الله انساناً وسُجل باسم ” يسوع ابن يوسف من الناصرة” (يو1/45؛ لو3/23)، في دائرة نفوس الامبراطورية. بهذا القيد انتمى يسوع، ابن الله وابن مريم، الى الجنس البشري، انساناً بين الناس من سكان هذا العالم، خاضعاً للشريعة وللمؤسسات المدنية، ولكن ” مخلصاً للعالم” ايضاً. وهكذا تاريخ البشر يمهّدللتدخل الالهي فيه، فينسجم مع تاريخ الخلاص.
ب- المكان محدد هو بيت لحم، الملقبة بمدينة داود (لو2/4)، إلى جانب اورشليم مدينة داود بامتياز، لأن داود الملك استولى عليها وجعلها مجيدة. يسوع الذي ينتمي الى سلالة داود، اراد بالتدبير الخلاصي ان يكون انتماؤه وضيعاً في بيت لحم، بدلاً من الانتماء الى مجد داود الملوكي في اورشليم. فكان ان ولد في مغارة تستعمل مذوداً للبهائم، بسبب كثرة الوافدين للاحصاء، وبسبب حاجة مريم الى مكان بعيد عن الانظار لتلد ابنها. لقد وضعته في فقر المذود وحالة وضيعة للغاية، فيظهرفقر المسيح منسجماً مع فقر امه (لو1/48)، ومع فقر الرعاة الذين اعلنوه وسجدوا له، فبات الفقر يشكل غنى روحياً وخلقياً في حياة المؤمنين والكنيسة.
داود نفسه الذي من بيت لحم، والابن الثامن والاصغر ليسّى، وراعي الغنم، اختاره الله ومسحه ملكاً على يد صموئيل (1صمو16/1-13). هذا الفقير الوضيع اصبح، بنعمة الله واختياره ومسحته، البطل المحبوب، وقدوس اسرائيل، والملك التيوقراطي بامتياز، والشاعر والنبي، ورمز المسيح (1042-971 قبل المسيح). هذه قيمة فقر المسيح الذي ” افتقر وهو الغني ليغنينا بفقره” (2كور8/9)، ودعانا بولس الرسول لنتخلق بخلقية هذا المسيح ( فيليبي2/5-8)، بولس الرسول اكّد حقيقة تاريخية قديمة وجديدة، هي أن الله اختار جهال العالم ليخزي الأقوياء، واختار الوضيعة احسابهم في العالم والمنبوذين والذين ليسوا بشيء ليبطل المعدودين، لكي لا يفتخر بين يديه كل ذي جسد” (1كور1/27-29). ويعقوب الرسول اشترط فضيلة الفقر لدخول الملكوت: ” اما اختار الله فقراء العالم، الاغنياء بالايمان، ليكونوا ورثة الملكوت الذي وعد به الله من يحبونه؟” ( يعقوب2/5). وجعلالسيد المسيح هذا الشرط في رأس دستور الخلاص: ” طوبى للفقراء بالروح، فان لهم ملكوت السموات” ( متى5/3). وهكذا تمت نبوءة ميخا ( سنة 700 قبل المسيح): ” وأنت يا بيت لحم، إنك أصغر عشائر يهوذا، ولكن منك يخرج لي من يكون قائداً لشعبي وأصوله قديمة، منذ أيام الازل” (ميخا5/1).
ج- الاسرة محددة هي عائلة يوسف ومريم الزوجين البتولين، من الناصرة وكلاهما من سلالة داود. هذه العائلة تسجلت في الاحصاء المدني العام، مع كل ما للابوة والامومة من مفاعيل على حياة يسوع ورسالته. شخص الابن الاله يتأنس آخذاً جسداً من مريم، وبالتالي هي ام هذا الشخص في طبيعته البشرية، وتدعى ام الاله ” Theotokos”، كما اعلنها مجمع افسس ( سنة 431). فالامومة تشمل الشخص بكامله، ولا تقتصر على الجسد، ولا على الطبيعة البشرية وحدها. لقد حبلت مريم بشخص هو ابن الله، الواحد مع الآب في الجوهر. انها في الحقيقة ام الله المتأنس، الذي غذته بحليبها وسكبت في قلبه حبها وحنانها وقيمها، وربّته وتعهدته وشاركته في رسالة الفداء (انظر كرامة المرأة،4).
يوسف زوج مريم، الذي لم يولد المسيح من زرعه بل بقوة الروح القدس، هو ايضاً ابو يسوع في الشريعة مع كامل حقوق الابوة، وقد اختاره الله لذلك. زواج يوسف بمريم ( متى1/16؛ لو1/27) هو المرتكز القانوني لابوته ليسوع. مريم نفسها تسمي يوسف ابا يسوع (لو2/48). لقد اقيم يوسف، بقرار من الإرادة الإلهية، حارس ابن الله واباً في نظر الناس. فكان كلمة الله خاضعاً ليوسف خضوعاً متواضعاً، يطيعه ويؤدي له كل الواجبات التي يجب على الابناء ان يؤدوها لوالديهم (البابا يوحنا بولس الثاني: حارس الفادي،8).
2. نداءات الميلاد
مع حدث ميلاد الكلمة الالهي انطلقت نداءات:
أ-” نور مجد الرب اشرق في قلب الليل”. الطفل الالهي في المذود يشع في ظلمة الليل، لكي يشع في القلوب والعقول وفي ظلمات العالم الروحية والاجتماعية والثقافية والسياسية. فيسوع المولود هو ” ضياء مجد الله وصورة جوهره ” ( عبرا1/3)، وسيقول عن نفسه: ” أنا نور العالم، من يتبعني لا يمشي في الظلام، بل يجد نور الحياة” (يو8/12). انه النور بشخصه وكلامه ومثله. في ظلمة الألم والفقر والظلم واليأس والضياع والاستضعاف، ظلمات يلفها الصمت الذي يسدّ الآفاق، اشرق المسيح كلمةًَ لكل من هو في ظلمة. فهو محط الانتظارات ” انه الكلمة الخارجة من الصمت” (القديس اغناطيوس الانطاكي). كلمة خلاص يعلنها الله بالملاك: ” ابشركم بفرح عظيم يكون للعالم كله، لقد ولد لكم اليوم المخلص، وهو المسيح الرب!” انه “الدنح” اي ظهور الله للعيان. في كل ظلمة ليل من حياتنا يظهر الله. في صمت التأمل والانتظار يظهر الله؟ الصمت باب الشفاء، ” فعالم اليوم مريض من الضجيج” (Kierkegaard). تنبأ كاتب سفر الحكمة قبل ميلاد المسيح بثلاثين سنة: ” بينما كان صمت هادىء يخيّم على كل شيء، وكان الليل في منتصف سيره السريع، وثبتْ كلمتك القديرة من السماء، من العروش الملكية، كالمحارب العنيف في وسط الارض الملعونة” ( حكمة 18/14-15). انها الكلمة التي صارت بشراً (يو1/14). انها كلمة الانجيل، انجيل الخلاص. انهاكلمة السلام والرجاء، كما انشد الملائكة: المجد لله في العلى، وعلى الارض السلام، والرجاء الصالح لبني البشر”. المسيح مجدنا، المسيح سلامنا، المسيح رجاؤنا! ينشد الناس في الميلاد الاغنية الالمانية Stille Nacht للشاعر Gruber: ” ايها الليل الصامت! الكل يصمت، فقط زوجان تقيان يسهران. وانت ايها الطفل اللطيف والحبيب تنام في هذا السلام السماوي”. في الصمت نسمع الله يتكلم. انه حاجة من حاجات يومنا.
ب- ” أسرع الرعاة الى بيت لحم ليروا الكلمة... ولما رأوا اخبروا بالكلمة. والذين سمعوا تعجبوا من الكلمة… وعاد الرعاة يسبحون الله ويهللون” ( لو2/15-20).
الرعاة الفقراء، الصامتون، البعيدون عن ضجيج المدينة، الساهرون على ماشيتهم سمعوا الكلمة ورأوا نورها. فاسرعوا الى بيت لحم. لقد رأوا واخبروا وسبّحوا. قاموا باول ليتورجيا في العهد الجديد: حول الكلمة الالهي، يسوع المسيح الاله والانسان، بحضور يوسف ومريم. جماعة الرعاةترى الطفل وتؤمن بالمخلص، تخبر بالكلمة وتشهد لها بالاعمال، تسبّح الله وتعود الى حقل العمل بفرح ورجاء. ليتورجيا المغارة في بيت لحم تتواصل في ليتورجيا القداس في كنائسنا. جميلة مغارة الميلاد قرب المذبح وبتواصل معه.
3. ليتورجيا الميلاد
ليتورجيا الميلاد، ككل ليتورجيا، وقفة تأمل: يوسف، المؤتمن على ” السّر المكتوم في الله منذ الدهور” ( افسس3/9)، يتأمل في هذا السّر الذي بدأ يتحقق امام عينيه، سرّ مجيء ابن الله الى العالم، بما فيه من تجرّد وتحرير للعالم، ومن فقر يغني كل انسان ينفتح بالافتقار من الذات الى غنى المسيح. ويتأمل يوسف، كمستمع، في ما اخبر رعاة بيت لحم ( لو2/15-16) وما رواه مجوس المشرق ( متى2/11).
مريم، الصامتة المتأملة، ” تحفظ في قلبها كل هذه الكلمات”. تسجد لمن ولدت، وهي ” ام خالقها”، وتستقي الحياة من الذي وضعته انساناً، وهي “ابنة ولدها” (البابا يوحنا بولس الثاني، ام الفادي،10). تتأمل في وجه من هو ثمرة بطنها، ثمرة حب الله للبشر وحب مريم له، باسم البشرية جمعاء. ما من ولد يولد لولا تبادل الحب بين والديه. بكلمة ” نعم، انا امة الرب” اعطت مريم كل حبها لله، بعد ان سبق وسكبه في قلبها بالروح القدس، فأصبح الكلمة بشراً. تأملت هذا المولود منها الذي يحقق الوعد الذي قطعه الله قديماً للبشر في اعقاب خطيئة آدم وحواء. فها ” نسل المرأة” يسحق رأس الحية، وينتزع الخطيئة التي القت بثقلها على تاريخ الإنسان على هذه الارض ( تك3/15) ( ام الفادي،11). في ليتورجيا القداس، مريم الحاضرة قرب مائدة الكلمة وجسد الرب ودمه، تقودنا الى عمق هذا التأمل وتعيننا على عيش ما نتأمل فيه. وفي تلاوة مسبحة الوردية، مريم تكشف لنا وجه ابنها يسوع الذي يشع منه الفرح والنور، والذي يفتدي ويغفر، ويقيم الانسان من الموت ويشركه بمجد السماء.
الرعاة المنذهلون، يرون ويخبرون، و” يقدمون حملاً وضيعاً لحمل الفصح، بكراً للبكر، وذبيحاً للذبيح” (القديس افرام). وراحوا يهللون لمن رأوا فيه ” راعي الرعاة”.
مجوس الشرق يسيرون على هدي النجم الى من هو شمس الكون، على هدي العلم الى من هو الحكمة الالهية، من قراءة علامات الازمنة انتقلوا الى عمق الايمان، وهم من الشعب الوثني، فسجدوا له وقدموا الهدايا رموزاً: الذهب لملك الملوك، والبخور للكاهن الأزلي، والمر حنوطاً للفادي الإلهي الذي يموت من أجل بشرية جديدة.
ليتورجيا القداس تأوين للتجسد والفداء، وينبوع ثمارها الروحية والاجتماعية.
4. تبادل عجيب
بالميلاد تمّ التبادل العجيب: الإله المتجسد يهبنا الوهيته، ونحن بشخص مريم ويوسف نبادله بشريتنا. الارض وهبته مغارة وهو بادلها كنيسة ومائدة خلاص. الامبراطورية قدمت له شعباً محصياً وارضاً موحَّدة وسلاماً شاملاً، وهو بادلها مملكة سماوية تعطي ممالك الارض سيادة الحق وكرامة العدل وقدسية الانسان. الرعاة هدوه حملاً من ماشيتهم، وهو بادلنا ذاته حملاً فصحياً. المجوس هدوه رموزاً، وهو بادلنا النبوءة والكهنوت والملوكية. اما قمة التبادل فهي ان ” الاله صار انساناً ليؤله الانسان” (القديس امبروسيوس). ولهذا نهتف ونقول: ” ولد المسيح، هللويا!”.
Discussion about this post