بشارة الملاك لمريم
إنجيل القدّيس لوقا 1/26-38
حضارة الحوار والتجسّد
إنجيل «بشارة مريم» هو بداية سرّ الكنيسة؛ بل الله يصير إنسانًا لابسًا الطبيعة البشريّة، ويعرف بيسوع المسيح التاريخيّ. ويصبح رأس البشريّة الجديدة التي لا عيب فيها، وتعرف بجسد المسيح السريّ، ويصيران معًا المسيح الكليّ (القدّيس أغسطينوس). في شخص مريم، عذراء الناصرة، وبواسطتها، تحقّق كلّ ذلك.
أوّلاً، اللوحة الإنجيليّة
1- مضمون البشارة
في الشهر السادس، بعد ستة أشهر من البشارة لزكريّا بمولد يوحنّا الذي «يسير أمام الربّ، كالسراج، ويمهّد له الطريق»، كانت البشارة لمريم بولادة المخلّص. الله هو سيّد تاريخ الخلاص، والانسان معاونه في تحقيق هذا التاريخ. من لوحة البشارتين يظهر الانسان في شخص كلّ من زكريّا وإليصابات ويوحنّا ومريم ويوسف ويسوع.
«عذراء مخطوبة لرجل». هي مريم ابنة حنّه ويواكيم، والرجل هو يوسف من سلالة داود. الخطبة اليهوديّة هي عقد زواج شرعيّ، ينقصه فقط انتقال العروس إلى بيت عريسها للمساكنة. تنصّ العادة اليهوديّة على مهلة لا تتجاوز السنة بين عقد الزواج الشرعيّ وزفّ العروس إلى بيت عريسها. الاحتفال بالزفاف عندنا يقوم بتسليم العروس إلى عريسها أمام باب الكنيسة، فيكشف العريس الطرحة عن وجهها، للدلالة على انتهاء المدّة الفاصلة بين الخطبة والمساكنة. الطرحة رمز لهذه المدّة، مع كلّ ما تعني من مسلك أخلاقيّ واحترام متبادل.
حيّاها الملاك بـ«السلام عليك، يا ممتلئة نعمة، الربّ معك» ليس السلام مجرّد تحيّة، بل يعني حسب اللفظة الأصليّة «افرحي، تهلّلي، ابتهجي»، ونجدها في كتب أنبياء العهد القديم مقرونة ببشرى حدث خلاصيّ من عند الربّ (أنظر صفنيا 3/14 وزكريّا 9/9). افرحي يا مريم «لأنّك ممتلئة نعمة»، لأنّ «الربّ معك». اضطربت مريم لهذا الكلام اضطرابًا شديدًا، هو خوف الانسان أمام ما يدعوه الله إليه. المسؤوليّة، كلّ مسؤوليّة زمنيّة أو روحيّة، هي اختيار من الله ينبغي أن يولّد خوفًا شديدًا لدى المدعو، بسبب ما يتطلب الاختيار من التزام ومسؤوليّة. نحن لا نسعى إلى المسؤوليّة، المعروفة اليوم بالوظيفة أو المنصب، بل تُعطى لنا. الحياة تقتضي إعداد الذات الكامل لكلّ مل يُطلب منّا.
«يا ممتلئة نعمة» تعني يا من نلت حظوة عند الله. فالنّعمة هي نوال حظوة عند الله، أي عطيّة من الله المحسن (سيراخ 18/17) ينعم علينا بها في ابنه الحبيب (أفسس1/6). علامة هذه الحظوة أنّ «الرب معك». هذه اللفظة ردّدها الله لكثيرين: لموسى عند دعوته إيّاه لإخراج شعبه من عبوديّة فرعون «أنا اكون معك وأنا أرسلك» (خروج 3/12)؛ لجدعون «الربّ معك أيّها المحارب الباسل» (قضاة 6/16)؛ لإرميا «إنّي معك لأنقذك.. هاءنذا قد جعلت كلامي في فمك» (إرميا1 /8-9)، لإسحق «أنا إله ابراهيم أبيك. لا تخف فإنّي معك أباركك وأكثر نسلك» (تكوين 26/24)، ليعقوب «أنا معك، أحفظك حيثما اتّجهت» (تكوين 28/15). وفي رسائل العهد الجديد أصبحت هذه الحقيقة دعاء: «النعمة والسلام من لدن الله معكم» أو في الليتورجيّا: «محبّة الله الآب ونعمة الابن الوحيد وشركة وحلول الروح القدس مع جميعكم»، و«السلام لجميعكم» أو في الطقس اللاتينيّ «الربّ معكم». ثمّ أصبحت عند المؤمنين دعاء لمن يغادر، وتحيّة الشخص الذي يصل أو يتّصل: «الله معك، الله معكم». إنّها ذات مضمون لاهوتيّ. ويفسّر الملاك لمريم مضمون «النعمة- الحظوة- العطيّة» بما يشكّل موضوع البشارة: «فستحبلين وتلدين ابنًا، فسميه يسوع..».
اسم «يسوع» يعني «الله يخلّص» . إنّه «عظيم» للدلالة على سموّه: فهو «ابن العليّ» أي ابن الملك الذي من نسل داود، والذي سيكون الله أباه، وهو ابنه (أنظر صموئيل 7/12-13)؛ إنّه «قدّوس»، أي هو الله، لأنّ لفظة قدّوس اسم يطلق على الله وحده (لوقا 4/34، رسل 3/14)؛ وهو «ابن الله» الذي مسحه الآب وأرسله إلى العالم، كما سيقول بطرس: «أنت المسيح ابن الله الحيّ». في جواب الملاك هذا كلّ لاهوت يسوع المسيح.
«كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً». آمنت مريم بكلام الملاك، واستفسرت عن كيفيّة الحبل، ولا علاقة زوجيّة لها مع يوسف. فيجيبها أنّه الحبل البتوليّ كما سبق وتنبّأ أشعيا: «العذراء تحبل وتلد ابنًا، اسمه عمّانوئيل أي إلهنا معنا» (أشعيا 7/14). وأكّد لها الملاك أنّ «الروح القدس ينزل، وقدرة العليّ تظلّلك»: يتمّ الحبل بقدرة الله، التي يمارسها الروح القدس، خلافًا للشريعة الطبيعيّة، لأن «ليس عند الله أمر عسير». وهكذا يتجلّى للمرّة الأولى الله الواحد المثلّث الأقانيم: الآب الذي أرسل الملاك جبرائيل إلى مريم، الابن الذي ستحبل به ويولد منها، الروح القدس الذي يُتِمّ فيها الحبل بحلوله عليها قدرة إلهيّة خالقة.
«أنا أمة الربّ، فليكن لي حسب قولك». جواب مريم هو طاعة الايمان، كما ستتنبأ إليصابات: «طوبى لتلك التي آمنت أنّ ما قيل لها من الله سيتمّ» (لو 1/45). جواب «نعم» على تصميم الله، وتحقيق الحبل الالهيّ ومجيء الربّ: «الكلمة صار بشرًا وسكن بيننا» (يو 1/14). في العهد القديم، كان مجيء الربّ بمخاطبة الأنبياء، وبالحضور وسط الغمامة. أمّا اليوم فيأتي بشخصه متجسّدًا: فالشخص الثاني من الثالوث القدوس، ابن الله، يتّحد بالطبيعة البشريّة اتّحادًا شخصيًّا، ويصبح يسوع المسيح الاله الحقّ والانسان الحقّ، في شخص واحد، كامل في الألوهة، وكامل في البشريّة، من نفس وجسد، مساوٍ للآب في الألوهة، ومساوٍ لنا في البشريّة كما يعلنها حقيقة إيمانيّة مجمع خلقيدونية (سنة 451). المولود من مريم في الطبيعة البشريّة هو إيّاه ابن الله، الأقنوم الثاني من الثالوث. هذا اللقاء بين الألوهيّة والانسانيّة يؤلّف وحدة لا يمكن فصلها إلى اثنين، كما لا يمكن فصل مياه نهرين يلتقيان ويصبحان نهرًا واحدًا. يسوع الانسان لن يقول، كالأنبياء، «الربّ يقول»، بل «أنا اقول لكم». بهذا المعنى أعلنت الكنيسة في مجمع أفسس (سنة 431) أنّ مريم هي «والدة الاله». في ضوء هذه الحقائق الايمانيّة، أعلن الطوباويّ البابا بيّوس التاسع في 8 كانون الأوّل 1854 عقيدة الحبل بلا دنس،أي «إنّ الكليّة الطوبى العذراء مريم، والدة الإله، بنعمة فريدة وإنعام من الله القدير، وبفضل استحقاقات يسوع المسيح، مخلّص الجنس البشريّ، حُفظت، منذ الدقيقة الأولى للحبل بها، معصومة من دنس الخطيئة الأصليّة»، التي يولد فيها كلّ إنسان.
2- مريم وبداية الكنيسة
ما تحقّق في مريم يوم البشارة يجعلها بداية الكنيسة، عروسة المسيح السنيّة التي لا دنس فيها، المقدّسة وبلا عيب (أفسس 5/27)؛ ويجعلها لشعب الله قدوة في القداسة ومحامية النعمة الالهيّة. إنّها وراءنا كبداية للكنيسة، وأمامنا كقدوة للقداسة تقودنا بيدنا لنرسم ملامح وجه يسوع المسيح الذي جعل نفسه قدوة لنا لنسير على خطاه (1 بطرس 2/12)، فنكون على صورته، وهو ابن الله، البكر لإخوة كثيرين (روم 8/29).
بهذا المعنى يسمّي البابا بولس السادس مريم «أمّ الكنيسة»، ويسميّها المجمع الفاتيكانيّ الثاني«قدوة الكنيسة وصورة بتولّيتها وأمومتها، وأمّنا جميعًا على صعيد النعمة» (الدستور العقائديّ في الكنيسة 61-65)، نحن الذين أصبحنا بالمعموديّة أعضاء في جسد المسيح السريّ الذي هو الكنيسة. وهكذا هي أمّ يسوع التاريخيّ الكلمة المتجسّد، وأمّ المسيح السريّ أو الكلّي.
***
ثانيًا، الخطّة الراعويّة
بعد التعمّق في لوحة البشارة بمعناها الحرفيّ ومعناها اللاهوتيّ، وبعد أن وقفنا على الحقائق التي نؤمن بها، لا بدّ من كشف معناها الخلقيّ لكي نلتزم بما يجب أن نعمل.
أ) بتجسّد الكلمة ابن الله من مريم، قام حوار ثابت بين الله والانسان. نحن مدعوّون لندخل في هذا الحوار. فيسوع الكلمة يكلّم كلّ إنسان: «هو النور الحقّ الذي ينير كلّ إنسان آتٍ إلى العالم» (يو 1/9). عندما نقرأ كتاب الله ونتأمّل فيه، هو يخاطبنا. وعندما نصلّي، نحن نكلمه (القدّيس أمبروسيوس). يحاورنا الله لكي نحاور بعضنا بعضًا. بالرّغم من تكاثر وسائل الاتصال، الحوار يتعثّر والاتّصال ينقطع في قلب العائلة: بين الأزواج وبين الأهل وأولادهم وبين الاخوة والاخوات؛ في الحيّ: بين الجيران؛ في المجتمع؛ في الكنيسة؛ في الجماعة الرعويّة والرهبانيّة؛ في المؤسّسة والمنظّمة. مسيرتنا نحو الميلاد دعوة إلى الحوار مع الله وبعضنا مع بعض. وبالرّغم من العولمة، تعثّر الحوار أيضًا بين الثقافات والأديان والشعوب والدول، وكثرت الاعتداءات وعمليّات العنف الحسيّ والمعنويّ.
المجمع البطريركيّ المارونيّ يوصي في النصّ 3: «حضور الكنيسة المارونيّة في النطاق البطريركيّ» بالالتزام في الحوار بمختلف أشكاله: حوار الحياة اليوميّة، وحوار العمل، وحوار الحياة الوطنيّة (رجاء جديد للبنان، 91). إنّه «حضارة الوجه»، كما يسمّيه مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، أي حضارة اللقاء المحبّ، والحوار الحقيقيّ، والتخاطب المباشر. تقتضي الخطّة الراعويّة التعريف بالآخر على قاعدة الحقيقة والمحبّة، وتنقية الذاكرة من الرواسب السلبيّة، والمبادرة إلى المغفرة والاستغفار.
ب) بالتجسّد، تشبّه المسيح الإله بالإنسان: «صار على مثال البشر» (فيليبّي 2/7) وشابهنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة» (عبرانيين 4/15). شابه الإنسان في ولادته وآلامه وعمله وموته. تشبّه الله بالإنسان حبًّا به، فعلى الإنسان أن يصير مثل الله (القدّيس مكسيموس المعترف). الكلمة الالهيّ صار لابسًا الجسد، لكي نصير نحن لابسي الروح (القدّيس أثناسيوس الاسكندريّ). فكما اتّحد بنا الله وصار معنا جسدًا واحدًا، علينا نحن ان نتّحد به ونصير وإيّاه روحًا واحدًا (1كور 6/17)، بالمسلك الخلقيّ. إيماننا بالمسيح التزام في خدمة المتألّمين والفقراء. فالتّجسد التزام في سبيل الانسان والعالم.
يذكّرنا المجمع البطريركيّ المارونيّ أنّ كنيستنا المارونيّة خلقدونيّة بالنسبة إلى مجمع خلقيدونيا (451) الذي أعلن عقيدة تجسّد ابن الله جامعًا في شخصه الطبيعة الالهيّة كاملة والطبيعة البشريّة كاملة. حول هذه العقيدة نشأت المارونيّة. فدعيت لتعيش روحانيّة التجسّد وحضارته. ويوصي المجمع بأن تكون من خلال أبنائها ومؤسّساتها حاضرة وفاعلة في محيطها على المستوى الثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والسياسيّ، من أجل نموّ الانسان، كلّ إنسان، نموًّا شاملاً، فيستعيد كرامته وصورة الله فيه (النصّ 3، عدد 17؛ وتفصيل الحضور في النصوص 21-23).
تقتضي الخطّة الراعويّة أن تتعمّق العائلة والمدرسة والرعيّة والجماعة الرهبانيّة والمؤسّسة والمنظّمة الرسوليّة بروحانيّة التجسّد وثقافة الحضور، وتتّخذ مبادرات عمليّة على المستويات المذكورة.
ج) مريم في البشارة هي صورة شعب، نحن منه: «تبارك الله أبو ربّنا يسوع المسيح، فقد باركنا بكلّ بركة روحيّة في السماوات في المسيح، إذ اختارنا فيه قبل إنشاء العالم، لنكون أمامه قدّيسين، بلا عيب في المحبّة، وتبنّانا بيسوع المسيح للتسبيح بمجد نعمته، فكان لنا الفداء بدمه والصفح عن الزلاّت على مقدار نعمته التي أفاضها علينا» (أفسس 1/3-8). على مثال مريم نحن مدعو ون لنقول «نعم» بإيمان وحبّ على تصميم الله الخلاصيّ لنا وللعالم. الخطّة الراعويّة تقوم على أن يسعى الأفراد شخصيًَّا والجماعة معًا، بالاصغاء إلى كلام الله والتأمّل فيه وسماع نداءات البيئة والمجتمع وقراءة أحداث الحياة اليوميّة والصلاة، إلى اكتشاف ارادة الله وتصميمه علينا، ونلتزم في الطاعة لارادة الله، وفي تحقيق تصاميمه، وشعاررنا كلمة ابن الله: «هاءنذا آت لأعمل مشيئتك يا الله» (عبرانيين 10/7).
صلاة
أيّها الابن الأزليّ، يسوع المسيح الإله الكلمة، يا من أتيت من حضن الآب إلى العالم، وحللت في حشا بنت داود البتوليّ، ببشارة جبرائيل رئيس الملائكة. إقبلْ يا محبّ البشر صلاتنا برحمتك، واستجب طلبتنا بنعمتك. أسكن في نفوسنا كما في البتول التي حملت بك. وليَلذّ لك عطر إيماننا كما لذّت نقاوة والدتك. أبهجنا بغفران خطايانا، كما أبهجت أمّك ببشارة مجيئك، فنشكرك على جميع عظائمك بنا، ونشكر أباك المبارك وروحك الحيّ القدّوس، الآن وإلى الأبد. آمين.
Discussion about this post