البشارة بالتجسّد الإلهي
لوقا 1 / 26 – 35
“وفي الشهر السادس أٌرسل جبرائيل الملاك من الله إلى مدينة من الجليل اسمها ناصرة، إلى عذراء مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف واسم العذراء مريم…”[26-27].
أولاً: منذ خمسة أشهر سبق فبشَّر الملاك زكريَّا الكاهن، والآن مع بداية الشهر السادس جاء يبشِّر القدّيسة مريم، لكن شتَّان بين البشارتين. حقًا إن البشارة الأولىتمَّت داخل الهيكل أثناء العبادة الجماعيّة، رافقها زكريَّا أمام الجميع وتحدَّث عنها الكهنة، إذ تمَّت مع زميلهم الكاهن، لكن كانت بشارة بميلاد أعظم مواليد النساء يوحنا السابق خادم الكلمة؛ أما البشارة الثانية فتمَّت في بيت مجهول في قريّة فقيرة بطريقة سريّة لم يلمسها حتى صاحب البيت نفسه “يوسف النجار”، وقد كانت بشارة بتجسّد الكلمة ذاته! لقد أخلى الابن ذاته، حتى في البشارة به لم تتم به بين كهنة، ولا في داخل الهيكل، ولا على مستوى الجماعة، إنما تمَّت مع فتاة فقيرة في مكان بسيط.
ثانيًا: أٌرسل الملاك إلى “عذراء مخطوبة لرجل“، لماذا لم يُرسل إلى عذراء غير مخطوبة؟
أ. يجيب العلامة أوريجينوس بأن وجود الخاطب أو رجل مريم ينزع كل شكٍ من جهتها عندما تظهر علامات الحمل عليها[47]، ويقول القدّيس أمبروسيوس:[ربَّما لكي لا يُظن أنها زانية. ولقد وصفها الكتاب بصفتين في آن واحد، أنها زوجة وعذراء. فهي عذراءلأنها لم تعرف رجلاً، وزوجة حتى تُحفظ ممَّا قد يشوب سمعتها، فانتفاخ بطنها يشير إلى فقدان البتوليّة (في نظر الناس). هذا وقد اِختار الرب أن يشك البعض في نسبه الحقيقي عن أن يشكُّوا في طهارة والدته… لم يجد داعيًا للكشف عن شخصه على حساب سمعة والدته.]
سبق لنا دراسة الخطبة والزواج حسب التقليد اليهودي، وكيف كانت الخطبة تعادل الزواج حاليًا في كل شيء ماخلا العلاقات الجسديّة، لهذا دعيت القدّيسة مريم “امرأة يوسف[48]”.
ب. يرى العلامة أوريجينوس[49] نقلاً عن القدّيس أغناطيوس[50] أن وجود يوسف يشكِّك الشيطان في أمر المولود ويُربكه من جهة التجسّد الإلهي. وقد قدَّم لنا القدّيس أمبروسيوس ذات الفكر حين قال: [هناك سبب آخر لا يمكن إغفاله وهو أن رئيس هذا العالم لم يكتشف بتوليّة العذراء، فهو إذ رآها مع رجلها لم يشك في المولود منها، وقد شاء الرب أن ينزع عن رئيس هذا العالم معرفته. هذا ظهر عندما أوصى السيِّد تلاميذه ألا يقولوا لأحد أنه المسيح (مت16: 22)، كما منع الذين شفاهم منإظهاراسمه (مت5: 4) وأمر الشيَّاطين ألا تتكلَّم عن ابن الله (لو 4: 35). يؤيِّد ما ذكره الرسول أيضًا: “بل نتكلَّم بحكمة الله في سّر، الحكمة المكتومة التي سبق الله فعيَّنها قبل الدهور لمجدنا، التي لم يعملها أحد من عظماء هذا الدهر، لأن لو عرفوالما صلبوا رب المجد”(1 كو 2: 7-8)… إذن لقد توارى الرب عن إبليس لأجل خلاصنا. توارى لكي ينتصر عليه، توارى عنه في التجربة، وحين كان يصرخ إليه ويلقبِّه “ابن الله” لم يؤكِّد له حقيقة لاهوته. توارى الرب أيضًا عن رؤساء البشر. وبالرغم من تردّد إبليس حين قال: “إن كنت ابن الله فاطرح نفسك إلى أسفل”(مت 4: 6) إلا أن الأمر قد انتهى بمعرفته إيَّاه، فقد عرفتْهُ الشيَّاطين حين صرخت: “ما لنا ولك يا يسوع ابن الله أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذِّبنا؟!” (مت 8: 29).لقد عرفتْه الشيَّاطين إذ كانت تترقَّب مجيئه، أما رؤساء العالم فلم يعرفوه… استطاع الشيطان بمكر أن يكشف الأمور المكتوبة أما الذين اقتنصتهم كرامات هذا العالم فلم يستطيعوا أن يعرفوا أعمال الله.]
ثالثًا: كرَّر الإنجيلي كلمة “عذراء” وكأنه أراد تأكيد عذراويَّتها ليعلن أن السيِّد المسيح ليس من زرع بشر. هذا ما أعلنه حزقيال النبي بقوله عن الباب الشرقي: “هذا الباب يكون مغلقًا لايُفتح، ولا يدخل من هإنسان، لأن الرب إله إسرائيل دخل منه فيكون مغلقًا، الرئيس، الرئيس هو يجلس فيه”(حز 44:2-3). ولذلك جاء في الطقس البيزنطي عن السيِّدة العذراء: [السلام لكَ، أيها الباب الفريد الذي عبر منه الكلمة وحده[51].]
إنها عذراء وزوجة (عروس) في نفس الوقت، إذ تمثِّل العضو الأول في الكنيسة العذراء عروس المسيح، وكما يقول القدّيس أمبروسيوس: [كانت مريم الزوجة العذراء تمثِّل في آن واحد الكنيسة العروس التي بلا عيب. فالكنيسة عروس المسيح البتول، حبلت بنا بالروح القدس وولدتنا بغير ألم، ومريم حبلت بالروح لا بالزواج، وهكذا صارت تمثِّل كل الكنائس التي تثمر بالروح والنعمة، وإن كانت تتَّحد ظاهريًا تحت لواء راعٍ بشري.]
يقول القدّيس أغسطينوس: [كما ولدت مريم ذاك الذي هو رأسكم، هكذا ولدتكم الكنيسة، لأن الكنيسة هي أيضًا أم وعذارء، أم في أحشاء حبنا، وعذراء في إيمانها غير المزعزع. هي أم لأمم كثيرة الذين يمثِّلون جسدًا واحدًا، وذلك على مثال العذراء أُم الكثيرين وفي نفس الوقت هي أُم للواحد[52].]
يقول القدّيس كيرلس الكبير: [لنُطوِّب مريم دائمة البتوليّة بتسابيح الفرح، التي هي نفسها الكنيسة المقدَّسة[53].]
رابعًا: يحدّد الإنجيل اسم المدينة التي جاء إليها الملاك ليلتقي بالقدّيسة العذراء مريم، وهى”ناصرة“. مدينة في الجليل بشمال فلسطين، تبعد 88 ميلاً شمال أورشليم، و15 ميلاً جنوب غربي طبريّة[54]. عاش فيها القدّيس يوسف والقدّيسة العذراءمريم، وقد قضى السيِّد المسيح القسط الأوفر من الثلاثين عامًا الأولى في حياته فيها (لو 3: 23؛ مر1: 9)، فدُعيَ بالناصري (مت12: 11؛ مر 1: 24). إذ بَدَأ رسالته رفضَهُ أهلها مرّّتيْن (لو 4: 28-31؛ مت 4: 13؛ 13: 54-58؛ مر 6: 1-6). تقع على تل (لو4: 29)، ولم يكن لها أهميّة تُذكر، فلم ترد في العهد القديم، ولا في وثائق الدول العظمى قبل مجيء المسيح، ولا في كتابات المؤرِّخ اليهودي يوسيفوس. لعلَّ كلمة “ناصرة” تعني “قضيب” أو”غصن”… ولهذا السبب كثيرًا ما دُعي السيِّد المسيح بالغُصن[55].
خامسًا: جاءت تحيّة الملاك: “سلامٌ لكِ أيَّتها الممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء”[28]. لم تكن بالتحيّة العاديّة وإنما جاءت تحيَّة فريدة، حملت كل معنى الفرح، فالكلمة اليُّونانيّة “شيريه” التي تُرجمت هنا “سلام” ورد فعلها حوالي 80 مرة في الترجمة السبعينيّة للعهد القديم، تُرجم نصفها “يفرح” والنصف الآخر استخدم للتعبير عن فرح شعب الله بعمل مثير يمس خلاصهم[56].وكأن القدّيسة مريم قد نالت باسم الكنيسة كلها التي هي عضو فيها فرحًا فائقًا خلال تجسّد الله الكلمة وحلوله فيها.
فيما يلي بعض التعليقات للآباء على هذه التحيّة الفريدة:
– انفردت بدعوتها “الممتلئة نعمة”، إذ وحدها نالت النعمة التي لم يقتنيها أحد آخر غيرها، إذ امتلأت بمواهبالنعمة.
القدّيس أمبروسيوس
– هذا الميلاد مطلقًا هو نعمة، فيه تمَّ الاتِّحاد، اتِّحاد الإنسان بالله، والجسد بالكلمة… لم تكن الأعمال الصالحة هي الاستحقاق لتحقيقه[57]
القدّيس أغسطينوس
– التحفت بالنعمة الإلهيّة كثوب، امتلأت نفسها بالحكمة الإلهيّة، في القلب تنعَّمت بالزيجة مع الله، وتسلَّمت الله في أحشائها[58]!
الأب ثيؤدسيوس أسقف أنقرة
سمعت القدّيسة مريم الملاك يقول لها: “الرب معكِ”، وكانلهذا التعبير مفهومه الخاص بالنسبة لها، فقد ذاقت معيّة الله على مستوى فريد، إذ حملت كلمة الله في أحشائها، وقدَّمت له من جسدها ودمها!
“مباركة أنت في النساء”… وكما يقول العلامة أوريجينوس: [الفرح الذي بوَّق به جبرائيل لمريم نزع حكم الحزن الصادر من الله ضد حواء[59]]، [كما بدأت الخطيّة بالمرأة وبعد ذلك عبرت إلى الرجل، هكذا بدأت البشارة بالنسوة (مريم واليصابات [60]).]
سادسًا: “فلما رأتهُ اضطربت من كلامه وفكَّرت ما عسى أن تكون هذه التحيّة. فقال لها الملاك: لاتخافي يامريم، لأنك قد وجدت نعمة عند الله”[29-30].
يقول القدّيس جيروم: [لقد اضطربت ولم تستطع أن تجاوبه، إذ لم يسبق لها أن قدَمت تحيّة لرجلٍ من قبل، لكنها إذ عرفته من هو أجابته، هذه هي التي كانت تخاف الحديث مع رجل، صارت تتحدَّث مع ملاك بلا خوف[61].]
هكذا يرى كثير من الآباء أن السيِّدة العذراء كنموذج حيّ للعذارى اللواتي تكرَّسن للعبادة يسلُكن بحياءٍ شديدٍ، ولا يلتقين برجالٍ، بل يقضين حياتهنَّ في بيوتهنَّ أو في بيوت العذارى، لا يتعاملْن مع الرجال. لكننا لا نستطيع أن ننكر أن مع ما اتَّسَمت به العذراء من حياء شديد وتكريس كامل لحساب الرب، وعدم رغبتها في الزواج، كما يظهر من قولها للملاك: “كيف يكون لي هذا وأنا لست أعرف رجلاً” لكنها كانت الإنسانة الفعّالة في الجماعة المقدَّسة. فعّالة بصلواتها وتقواها، وفعّالة أيضًا بقبولها عطيّة الله الفائقة (تجسّد الكلمة في أحشائها)، وفعّالة في الخدمة، ففي أول معجزةللسيِّد المسيح طلبت منه “ليس لهم خمر”(يو 2: 3)، ورافقت السيِّد حتى الصليب، وبعد الصعود كانت مع التلاميذ تسندهم.فالبتوليّة لا تعني السلبيّة، إنما إيجابيّة الحّب الباذل المُعلن خلال العبادة والعمل، في حدود مواهب الإنسان التي يتسلّمها من الرب نفسه. لذلك يقول القدّيس أغسطينوس: [لا تكرم البتوليّة من أجل ذاتها، وإنما لانتسابها لله[62].]
سابعًا: جاء الوعد الإلهي للقدّيسة مريم على لسان الملاك: “وها أنت ستحبلين وتلدين ابنًا وتسمِّينه يسوع. هذا يكون عظيمًا وابن العلي يُدعى، ويعطيه الرب الإله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الأبد، ولايكون لمُلكه نهاية”[31-33].
تمتَّعت القدّيسة مريم بهذا الحبل الإلهي، إذ تجسّد ابن العلي فيها، هذا الذي ترقبه رجال العهد القديم كملكٍ يجلس على كرسي داود ويملكأبديًا، وكمخلِّصٍ لذا يدعى “يسوع” الذي يعني “يهوه خلاصي”.
– ليس من يشبه والدة الإله، فإنَّك وأنت تسكنين الأرض صرِت أُمًا للخالق.
(بارالكس) لحن البركة
– إن كان ابن الله قد صار ابنًا لداود، فلا تشك ياابن آدم أنك تصير ابنًا لله.
إن كان الله قد نزل أعماقًا كهذه، فإنَّه لم يفعل هذا باطلاً، إنماليرفعنا للأعالي! وُلد بالجسد، لكي تولد أنت ثانية حسب الروح.
وُلد من امرأة، لكي تصير أنت ابنًا لله[63].
القدّيس يوحنا ذهبي الفم
Discussion about this post