بين الصمت و الألم
لم يحفظ الكتاب المقدّس لهذا القديس العظيم كلمة خرجت من فيه، ولم تسمع الأرض نطقاً له
بل كان صمته وكماله وجمال نفسه، وبديع صفاته، وسمو فضائله، مع بساطة حياته أروع تعليم، وأفصح بيان وأجمل فلسفة خرجت من فم إنسان لأنه جمع في شخصه وفي حياته أسمى المزايا وأكمل الفضائل التي يمكن أن يتحلى بها إنسان في هذه الدنيا.
كان يوسف البتول من بيت لحم، من سبط يهوذا ومن عشيرة داود فكان بذلك من أشراف اسرائيل مولداً ومنشأً وحسباً ونسباً
إلا أن الله، الذي كان قد أراد لإبنه الوحيد حياة الاتضاع والفقر، شاء أن يكون الرجل الذي سوف ينتدبه ليكون الحافظ الأمين لأمه، والخادم الحكيم الصادق ليسوع في حداثته فقيراً مسكيناً، لا شأن له بين قومه، ولا ذِكْرَ له بين أهله وعشيرته
لكن غنى القديس يوسف كان في قلبه. وكانت ثروته أخلاقه وفضائله.
فاصطفاه الله بين جميع رجال اسرائيل لأعظم رسالة دعا إليها بشراً. فكان يوسف ذلك الرجل الذي حقق مقاصد الله فيه
وما حدثَ هو أنه عندما أراد القديس يوسف أن يأتي بخطيبته مريم الى بيته ، وجـــدها ( حبلى ) تنتظر مولودا .
﴿لَمَّا كانَتْ أُمُّهُ مَرْيَمُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُف، وقَبْلَ أَنْ يَسْكُنَا مَعًا، وُجِدَتْ حَامِلاً مِنَ الرُّوحِ القُدُس ﴾ (متى 1 /18)
أكد الكتاب أن ما تحمله مريم هو من الروح القدس الذي هيأها وقدّسها ليحل كلمة الله المتجسد فيها.
إنه ليس من زرع بشر، إذ تحقّق الحبَل بهِ وهي مخطوبة للقدّيس يوسف وكانت الخطبة ليوسف البار أمرًا ضروريًا، لأسباب كثيرة منها ما ذكره القدّيس جيروم:
أولاً: لكي يُنسب للقدّيس يوسف قريب القدّيسة مريم، فيظهر أنه المسيّا الموعود به من نسل داود من سبط يهوذا.
ثانيًا: لكي لا تُرجم القدّيسة مريم طبقًا للشريعة الموسويّة كزانية، فقد سلّمها الرب للقدّيس يوسف البار الذي عرف برّ خطيبته
وأكّد له الملاك سرّ حبلها بالمسيّا المخلّص.
ثالثًا: لكي تجد القدّيسة معها من يعزّيها، خاصة أثناء هروبها إلى أرض مصر .
عجيب هو صمت العذراء التي كتمت سرها حتى عن خطيبها يوسف فهذا درس لنا في البعد عن المجد الباطل وفي إنكار الذات
﴿ فيوسف رجلها إذ كان باراً، ولم يشأ أن يشهرها ،أراد تخليتها سرا ﴾ (متى 1 /19)
ظهرت علامات الحمل على العذراء فكان أمام يوسف أحد اختيارين:
– إما أن يحاكمها أمام الشيوخ فترجم حسب الشريعة1
2- وإما أن يطلقها أمام شهود بدون علة حتى لا يشهرها (تث1:24) وهذا ما أنتواه يوسف.
وهو كان يجب عليه أن يتخذ أي قرار من الاثنين، فالساكت على الخطية كأنه قد اشترك فيها وهو فضل استخدام الرحمة عن العدل.
يُعلّق القدّيس يعقوب السروجي على هذا التصرّف النبيل من جانب القدّيس يوسف، قائلاً:
نظر الشيخ إلى بطنها، تلك المخطوبة له، وتعجّب الصِدّيق!
رأى صبيّة خجولة عاقلة، فبقى داهشًا في عقله !!
شكلها متواضع، وبطنها مملوءة، فتحيّر ماذا يصنع؟!
منظرها طاهر، ورؤيتها هادئة، والذي في بطنها يتحرّك !!
طاهرة بجسدها، وحبلها ظاهر، فتعجّب من عفّتها والمجد الذي لها ؟
وبسبب حبلها كان غاضبًا
كان البار حزين القلب على حبل العذراء النقيّة، وأراد أن يسألها فاستحى… وفكّر أن يطلّقها سرًا
ربّما يتساءل البعض، وهل من ضرورة لتخليتها سرًا؟
يجيب القدّيس جيروم بأن العلامات كانت واضحة، فإن لم يتخلَ عنها يُحسب مذنبًا حسب الشريعة
فإنه ليس فقط من يرتكب الخطيّة يتحمّل وزرها، وإنما من يشاهدها ولا يتخذ موقفًا منها
﴿ومَا إِنْ فَكَّرَ في هذَا حَتَّى تَرَاءَى لَهُ مَلاكُ الرَّبِّ في الحُلْمِ قَائِلاً: يَا يُوسُفُ بنَ دَاوُد، لا تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتَكَ، فَٱلمَوْلُودُ فِيهَا إِنَّمَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ القُدُس﴾
إذ رأى الله ارتباك هذا البار مع سلوكه بحكمة ووقار أراد أن يطمئنه دون أن يتركه طويلاً في حالة الشك و الاضطراب
فأظهر له ملاكًا في حلم يكشف له عن سرّ الحبل فلم يقدّم له رؤيا ظاهرة في يقظته إنما حلم, إذ كان متزايدًا جدًا في الإيمان وليس في حاجة إلى الرؤية ويوسف مثال الإنسان الواعي، المنفتح بكلّيته على الحضور الإلهي، والّذي يقبل إرادته في حياته علم أن الله يدعوه الى بعد أسمى من مجرّد أن يكون نجّاراً متزوّجاً يمضي حياته في قرية نائية شمال إسرائيل , علم أن الله يوكل إليه كلمته، ابن الله الوحيد وابن مريم البتول.
﴿ لا تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ ٱمْرَأَتَكَ﴾
مريم امرأتك: إن تدّخل الله في حياة مريم، وحبل مريم من الرّوح القدس
لم ينفي حقيقة أن مريم هي “أمرأة يوسف”. في حياة عائلة الناصرة يأخذ الزواج بعداً مميّزاً
دون شكّ أن يوسف لم يعرف مريم جسديّاً لا قبل ولادة يسوع ولا بعدها، إنّما هذا لم يمنع الله أن يقول له: “مريم إمرأتك” فالزواج لا ينحصر فقط بالبعد الجسديّ، بل أن الرّب يدعو الزوجين الى عيش عظمة الحبّ بكافّة أبعاده و إن يوسف ومريم لم يعيشا البعد الجسديّ لأنّهما قبلا دعوة مميّزة تجعلهما يشاركان في مخّطط الله الخلاصيّ إنّما عاشا دون شكّ معنى الزواج بشكله الأعمق: إحترام الواحد للآخر، الخوف على الآخر والقلق عليه و هنا علينا ان نشهد لعظمة السيدة العذراء ولشدة إيمانها وعظمة التسليم الذي كان سائداً على حياتها.
سكتت مريم و لم تدافع عن ذاتها و لم تشأ ان تتدخل في المخطط الإلهي اكتفت بالصمت وانتظرت الإعلان الإلهي ليُبَرِرَها
مريم ألقت كل رجاءها على الله , فأظهر الله برَّها كالشمس
***
﴿ وسَوْفَ تَلِدُ ٱبْنًا، فَسَمِّهِ يَسُوع، لأَنَّهُ هُوَ الَّذي يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُم﴾
لقد أعطى الملاك ليوسف البار هذه الكرامة أن يمارس الأبوة مع أن السيّد المسيح ليس من زرعه، فأعطاه حق تسُمّيته، وإن كان الاسم ليس من عنده بل بإعلان إلهي
إنه “يسوع” التي تعني في العبريّة “يهوه يخلّص“
هو يخلص القلب من محبة الخطية يرفع عنها سلطان الخطية وقوتها
وهو يخلصنا من عقوبة الخطية ويصالحنا مع الله الآب
وان عشنا في حضرة الله الآب تهرب الخطية. واليهود فهموا الخلاص بطريقة خطأ
فهم فهموا أن الخلاص يكون من الرومان أو من أي مصائب وقتية، ومازال البعض حتى الآن يفهمونها هكذا.
أما كلمة “عذراء”
ففي العبريّة “آلما Olmah”
هي تخص فتاة عذراء يمكن أن تكون مخطوبة لكن غير متزوجة، وجاءت مطابقة على القدّيسة مريم تمامًا المسيح ولد من عذراء، فهو لا يوجد في أحشاء إلا أحشاء عذراوية لا تعرف خطية وترفض أن تقترن بشهوات هذا العالم.
﴿ ولَمَّا قَامَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْم، فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاكُ الرَّبِّ وأَخَذَ ٱمْرَأَتَهُ﴾
عندما استيقظ يوسف من الحلم فعل كلّ ما أمره به الملاك:
هو الإنتقال من حالة الإيمان الى حالة العمل، هو وضع الإيمان موضع التطبيق
سهل أن نقول “أؤمن” إنّما الإيمان نعبّر عنه حين نضعه موضع العمل بأخذه مريم الى بيته، دخل يوسف في صميم مخطّط الله الخلاصيّ
صار المؤتمن على الكلمة والراعي لإبن الله الوحيد هكذا آمن يوسف واحتفظ بمريم وأتى بها الى بيته فرحا مسرورا لهذا الشرف السامي الذي خصّه به الله ليكون مربيا للطفل يسوع.
طاعة القديس يوسف جعلته قوياً في الصعوبات التي واجها في حياته مع مريم ويسوع مسلماً ذاته الى العناية الالهية التي لا تترك من يخضع لها
وأنه لم يهتم بالمشقات والاخطار، بل كان معتمداً في حياته على انه يستطيع كل شي في الله الذي يقويه
نعم، لا يكفي أن تكون مسيحياً إذ “لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لي: يَا رَبّ، يَا رَبّ! يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوات، بَلْ مَنْ يَعْمَلُ مَشِيئَةَ أَبِي الَّذي في السَّمَاوَات” متى7\21
ومشيئة الآب تتلخّص في منح الخلاص وهو يتوق ليشركنا معه في هذه المهمّة العظيمة التي حدّدها الربّ يسوع قائلاً:
“فَلْيُضِئْ نُورُكُم أَمَامَ النَّاس، لِيَرَوا أَعْمَالَكُمُ الصَّالِحَة، ويُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذي في السَّمَاوات” (متى5\16).
ومن استصعب المهمّة، فلينظر إلى يوسف البار ويتمثّل به
هو الّذي “ فعل كما أمره ملاك الربّ “
يُدْخِلُنا نَصّ هذا الإنجيل في عَلاقَة مَعَ مَريَم، فَيَطْلُب مِنَّا أنْ نَأخُذْ مَريَم
وَ ما تَحْمِلُ في أحْشائِها إلى بَيْتِنا وَ إلى حَياتِنا كما فعل يوسف فما هوَ دَور مَريَم في حَياتِكَ ؟؟
﴿ولَمْ يَعْرِفْهَا، فَوَلَدَتِ ٱبْنًا، وسَمَّاهُ يَسُوع ﴾
إن هذه الآية قد سببت الكثير من الجدل بين اللاهوتيّين على مرّ القرون، فماذا تعني هذه ال”حتى”؟
هل أن يوسف عرف مريم بعد ولادة ابنها البكر؟
كلا و حاشا أن يدخل أحدٌ الباب الذي ولجتَهُ أنتَ يارب
يجب أن نعي أوّلاً أن هدف القديس متّى ” كاتب السفر ” كان في التشديد على أن لا دخل ليوسف بولادة يسوع فهو لم يعرفها قبل ولادة ابنها. هو تشديد على بنوة يسوع الإلهيّة:
لقد حُبل به بقوّة الروح القدس فقط. وهذا لا يعني أبداً أن يوسف قد أضحى زوج مريم بعد ولادة ابنها.
فالتقليد الكنسيّ الّذي يرقى الى أيّام الرسل قد علّم دوماً أن مريم لم تعرف رجلاً بل بقيت بكليّتها ملكاً لله وهيكلاً مقدّساً له إلى جانب التقليد وتعليم الكنيسة، يشرح القديّس أفرام هذا الآية قائلاً:
إن داود قد قال: “قال الرّب لسيّدي إجلس عن يميني حتّى أجعل أعدائك موضعاً لقدميك”
لم ينزع السيّد عن يمينه بعد أن وضع أعدائه تحت قدميه”
كذلك يوسف، لم يعرف مريم حتى ولدت ابنها البكر، ولم يعرفها كذلك بعد ولادتها
كتابوت العهد الّذي احتوى وصايا الله ولم يلمسه أحد، وكباب الهيكل الّذي يبقى مغلقاً لأنّ منه يدخل السيّد وحده
يقول القدّيس يوحنا الذهبي الفم:
[استخدم هنا كلمة “حتى” لا لكي تشك وتظن أنه عرفها بعد ذلك، إنّما ليخبرك أن العذراء كانت هكذا قبل الميلاد لم يمسها رجل قط.
وربّما يقال: لماذا استخدم كلمة “حتى”؟ لأنه اعتاد الكتاب أن يستعمل هذا التعبير دون الإشارة إلى أزمنة محدّدة. فبالنسبة للفَلك قيل إن الغراب لم يرجع حتى جفت الأرض (تك 8: 7) مع أنه لم يرجع قط
ابنها البكر
يفهمون من هذا أيضاً أن العذراء أنجبت أخوة للمسيح من بطنها وهذا لا يعني أن السيّد المسيح له إخوة أصغر منه من مريم وأنه هو بكرها فإن كل فاتح رحم يُحسب بكرًا حتى ولو لم يكن بعده إخوة أصغر منه. يقول القدّيس جيروم:
كل ابن وحيد هو بكر، ولكن ليس كل بكر هو ابن وحيد. فإن تعبير “بكر” لا يُشير إلى شخص له إخوة أصغر منه . فالبكر هو كل فاتح رحم (عدد15:18). حتى لو لم يكن له إخوة والدليل أنه كان على شعب الله أن يقدم كل بكر لله دون أن ينتظر ولادة إخوة له.
والمسيح صار بكراً بين إخوة كثيرين (رو29:8)
والعذراء استمرت بكراً (خر1:44،2)
تعرفنا على يوسف الصديق والبار والصالح يبقى علينا أن نتعلم منه الكثير
يوسف كان رجل الصمت فقد خدم بصمت
وعاش مع عائلة الناصرة بصمت دون أن يتباهى بأنَّه هو من يربي الملك المنتظر
وهنا نسأل: أين نحن من صمت يوسف العميق؟
أين نحن من ذواتنا المتعطّشة للإصغاء إلى صوت الله في أعماقنا ؟
فيا أيها القديس يوسف يا من كنت قدوة بالصمت والطاعة والصلاح أعطنا أن نقتدي بك وساعدنا لنتبنَّى يسوع ملكاً ومخلِّصاً لحياتنا، آمين
هذه كانت رسالة يوسف وتضحيته العظمى .. فهل نجد اليوم أمثال يوسف
Discussion about this post