نسب يسوع
إنجيل القدّيس متّى 1/1-17
المسيح مشتهى الأجيال وكاشف سرّ الإنسان
يسوع ابن الله أصبح ابن الإنسان بالمشاركة والتضامن مع البشريّة جمعاء من أجل فداء جميع الناس وخلاصهم. انكشف لنا سرّ المسيح الأزليّ في البشارة لمريم والبيان ليوسف أنّه ابن الله؛ أمّا اليوم فينكشف لنا سرّه التاريخيّ أنّه ابن الإنسان المتحدّر من السلالة البشريّة. في هذا ينجلي لنا معه سرُّ الإنسان، هذا شخص حرّ الذي يريده الله لدعوة خاصّة في تاريخ الخلاص.
أوّلاً، شرح نصّ الإنجيل
1- نسب يسوع
افتتح القدّيس متّى إنجيله بنسب يسوع للإعلان أنّه هو المسيح المنتظر، الذي يحقّق وعد الخلاص، وفقًا لنبوءات العهد القديم. ولهذا قال: «كتاب تكوين يسوع المسيح ابن داود (المسيح المنتظر)، ابن ابراهيم» (محقّق وعد الخلاص). وأراد أن يكشف أنّ هذا ابن الله هو أيضًا إنسان بطبيعته البشريّة، بل هو موسى الجديد والمعلّم الأوحد للشريعة. إنّه عمّانوئيل، «إلهنا معنا» (متّى 1/23)، الذي «يبقى معنا طول الأيّام إالى انتهاء العالم» (متّى 28/20). يتمثّل متّى الانجيليّ بوجه الانسان، كما ظهر ليوحنّا في رؤياه، فيما يتمثّل وجه مرقس بالأسد لأنّه يبدأ إنجيله بنداء يوحنّا المعمدان: «صوت صارخ: في البريّة: أعدّوا طريق الربّ» (مر 1/3)، ولوقا بالعجل لأنّه يبدأ إنجيله «بميلاد يسوع في مذود» (لو 2/7)، ويوحنّا بالنسر الطائر لأنّه حلّق في سماء الكلمة: «في البدء كان الكلمة، والكلمة كان لدى الله، والكلمة هو الله» (يو 1/1؛أنظر رؤيا 4/2-3،6-7).
نجد في الإنجيل نسبين ليسوع: الأوّل انحداريّ من ابراهيم إلى يوسف رجل مريم التي منها ولد يسوع الذي يدعى المسيح (متّى 1/16)، والثاني تصاعديّ من يوسف إلى آدم الذي هو من الله (لو 3/23- 38). متّى قصد التأكيد أنّ يسوع هو المسيح المنتظر من سلالة داود، ومحقّق مواعيد الله الخلاصيّة لابراهيم، كما أعلن الآباء والأنبياء، منذ القديم، واختصرها بولس الرسول بالقول: «من بولس، عبد المسيح يسوع، الذي دُعي ليكون رسولاً لانجيل الله الذي وَعَدَ به من قبل، بأنبيائه في الكتب المقدّسة، في شأن ابنه الذي وُلد بحسب الجسد من نسل داود، وجُعل بحسب روح القداسة ابن الله بقوّة، أي بالقيامة من بين الأموات، وهو يسوع المسيح ربنا» (روم 1/3-4).
أمّا لوقا، الذي يكمّل رؤية متّى، فيبيّن أنّ يسوع هو آدم الجديد، وأبو كلّ البشريّة المفتداة، ومخلّص جميع البشر، من أيّ عرق ودين ولون. ويتفرّد لوقا (2/1-7) بالحديث عن تسجيل يسوع مع أبيه وأمّه، في الاحصاء الذي اضطرّ يوسف ومريم الحبلى بيسوع على السفر من الناصرة إلى مدينة داود للاكتتاب، وفي هذه الأثناء ولد الطفل في بيت لحم وسجّل في أسرة يوسف ومريم: «يسوع بن يوسف الذي من الناصرة» (يو 1/45). هذا يعلن بوضوح انتماء يسوع إلى الجنس البشريّ، إنسانًا بين الناس، من سكّان هذا العالم، خاضعًا للشريعة وللمؤسّسات المدنيّة، ولكن مخّلصًا للعالم أيضًا. «وهذا الذي اكتتب في الاحصاء المسكونيّ مع البشريّة جمعاء، إنّما أراد أن يُحصي الناس اجمعين معه في سفر الأحياء، ويسجّل في السموات مع القدّيسين كلّ الذين يؤمنون به، له المجد والقدرة إلى الدهور، آمين» (أوريجانس، عظة 11 في القدّيس لوقا؛ أنظر البابا يوحنّا بولس الثاني: حارس الفادي، 9).
إنّ نسب يسوع مشاركة وتضامن مع البشريّة بأسرها:
أ- مشاركة في البركات والوعود الإلهيّة التي تحقّقت في يسوع المسيح «ابن داود وابراهيم وآدم». ما يجعل كلّ مولود في سلالة البشر«يرث» هذه البركات والوعود الإلهيّة الممنوحة للأجداد، (معجم اللاهوت الكتابيّ، لفظة «نسل»، صفحة 904).
ب- تضامن حرّ مع كلّ إنسان: «شاركنا في كلّ شيء ما عدا الخطيئة» (عبرانيين 4/15). يتضامن الربّ يسوع في الواقع الانسانيّ لكي يرفع كلّ إنسان الى البنوّة لله. سيقول القدّيس أمبروسيوس: «تأنّس الله، ليؤلّه الإنسان». وهكذا يجعل أولئك المنتمين إلى جيل أدم أبي البشريّة، وابراهيم أبي المؤمنين، جيلاً مختارًا ( 1بطرس 2/9)، جيل المولودين من الله (يو 1/12-13)، بالولادة الثانية من الماء والروح (يو 3/5؛ المرجع نفسه).
أمّا مجموعة الأجيال الثلاثة فترمز إلى مسيرة شعب الله نحو المسيح، الذي هو محور البشريّة والتاريخ. المجموعة الأولى من ابراهيم إلى داود هي مسيرة الايمان من ابراهيم حتّى تنظيم الملوكيّة مع داود؛ المجموعة الثانية من داود إلى سبي بابل رمز الخطيئة فالتهجير مع بيتشابع زوجة أوريا، التي بعد أن ضاجعها داود وحبلت منه قتل زوجها (2 صموئيل 11)، فوبّخ الربّ داود على خطيئته بلسان ناتان (الفصل 12)؛ المجموعة الثالثة من سبي بابل إلى المسيح رمز وعد الله الذي ما زال قائمًا، لأنّ الله صادق في الوعد وأمانته إلى الأبد، حتّى تحقّق الوعد في المسيح.
1. سرّ الإنسان
في رسالته إلى العائلات (2 شباط 1994)، يتحدّث البابا يوحنّا بولس الثاني عن «نسب الشخص البشريّ» (الفقرة 9)، فيؤكّد «أنّ نسب الشخص مكتوب في بيولوجيّة النسل». علّق على هذا القول الكردينال أنجلو سكولا، عندما كان رئيسًا لجامعة اللاتران الحبريّة، في مناسبة المؤتمر الدوليّ ولقاء البابا مع العائلات في روما (تشرين الأوّل 2000)، بالمداخلة التي ألقاها بعنوان: «نسب شخص الابن» (أنظر أعمال المؤتمر، صفحة 93-104). وذلك عبر خمس مراحل، يتبيّن من خلالها سرّ الإنسان والعائلة.
الولد، في الأصل، هو ثمرة العطاء الذي يتبادل به الرجل والمرأة ذاتيهما بالحبّ والشركة الزوجيّة. فنعتمد لفظة «زفاف- noces»، لأنّها تفترض اختلاف الجنس: ذكر وأنثى- رجل وامرأة، يرتبطان بعهد الحبّ الزوجيّ المعبّر عنه بتبادل الذات كاملة روحًا وجسدًاً. هذا الحبّ ينبع من شركة الثالوث الالهيّ القدّوس.
لكنّ المولود من هبة ذات الوالدين هو هبة من الله. لفظة «إنجاب»، pro-creatio في اللاتينيّة تعني تواصل الخلق ( pro تعني الإشارة إلى ما هو الأصل). ولفظة المنجب pro-creatiorتعني المشارك مع الذي يجري في الأساس عمليّة الخلق، وهو الله. وهكذا يكون الوالدان «شاهدين»،من خلال الإنجاب، للخالق وللخلق. في الواقع، لفظة إنجاب في اللغة الألمانيّة Zeugungمشتقّة من أصل لفظة «شهادة» ? Zeugnis. وسيشهد بولس الرسول باسم كلّ الوالدين بالقول: «إنّي أجثو على ركبتيّ لأبي ربّنا يسوع المسيح، الذي منه كلّ أبّوة في السماء والأرض تأخذ اسمًا» (أفسس 3/14-15). «إنّ الله حاضر في كلّ أبّوة وأمومة، لأنّه هو الذي يعطي كلّ مولود «صورته» و« شبهه» الخاصّين بالكائن البشريّ وحده. «فالإنجاب هو تواصل الخلق» (رسالة إلى العائلات، 9).
هذا المولود من والدين بشريين حاملاً صورة الله، هو شخص بشريّ جديد. ليس مجرّد فرد مستنسخ من نوعه، كما يجري في سائر مخلوقات الأرض من حيوان ونبات، بل «هو إنسان جديد يحمل معه إلى العالم صورة الله نفسه وشبهًا خاصًّا بالله» (المرجع نفسه). هذا يعني أنّ في فعل الحبّ الزوجيّ يتمّ اللقاء بين الأبديّ والزمن، بين الله الذي ينفخ روحًا من روحه والزوجين اللذين يتبادلان هبة الذات كاملة، وكأنّ الحبّ الزوجيّ هو «الهيكل حيث يحتفل الله بسرّ الحبّ الذي يخلق» (المطرانCaffarra: مفاتيح قراءة رسالة البابا يوحنّا بولس الثاني إلى العائلات). ليس الوالدون أسياد الحياة وأسياد أولادهم، بل الله وحده «سيّد الحياة» (أعمال 3/15). وقبل أن يكونوا والدين كانوا مولودين. ولهذا لا يحقّ لهم اللجوء إلى وسائل منع الحمل الاصطناعيّة، ولا إلى الاجهاض، الذي هو جريمة قتل مثل سائر الحبوب الاجهاضيّة (ق 1450 من مجموعة قوانين الكنائس الشرقيّة)، والحلّ من هذه الخطيئة الجسيمة محفوظ لمطران الأبرشيّة (ق 728 بند 2)؛ ولا إلى استنساخ الأجنّة. هذا المنع إنّما هو لحماية الحياة وكرامة الأبّوة والأمومة.
إنّ الولد المولود حاملاً صورة الله، هو حدث حريّة، بمعنى «أنّ الله يريده لذاته» (التعليم المسيحيّ للكنيسة الكاثوليكيّة،1730)، فيدعوه إلى تحقيق ذاته بكاملها. وإذ يخلقه يزيّنه بالحريّةً ليبلغ إللى الاتّحاد به. تتميّز الأبّوة والأمومة بحريّة مثلّثة: الرغبة التي تعطي بداية وجود للولد، والتربية التي تساعد على أن يحسن خياراته في الحياة، والتوجيه الذي يبلغ بالولد إلى مصيره الأخير، اللقاء بالله، من خلال السهر والمثال الحيّ.
وأخيرًا الشخص المولود يتخطّى والديه، لأنّ ولادته مرتبطة بارادة الله، من دون إهمال المعطى البيولوجيّ للانطلاقه، الكامن في الفعل الزوجيّ. وبهذه الصفة يسهم في بناء حضارة جديدة، هي حضارة المحبّة والحريّة والاخوّة الشاملة. هذه القرابة الروحيّة والثقافيّة التي تتخطّى قرابة اللحم والدم هي شركة الأشخاص.
***
ثانيًا، الخطّة الراعويّة
إنجيل نسب يسوع إلى العائلة البشريّة، عبر أجيالها، دليل على أنّ المسيح افتداها كلّها، وهي تعلن رحمة الله من جيل إلى جيل. ويظلّ يسوع المسيح «مشتهى كلّ الأمم» (القدّيس أغسطينوس)، تهتف إليه مع الكنيسة: «ذابت نفسي شوقًا إلى خلاصك، فرجوت كلمتك» (مز 119/81). الكنيسة الشاهدة للمسيح تسير مع عمّانوئيل، الله معنا، بين مجيئه الأوّل في ملء الزمن، ومجيئه الثاني في نهاية الأزمنة، على أنّه «آت على عجل» (رؤيا 22/20).
المجمع البطريركيّ المارونيّ يذكّرنا بالتراث الأنطاكيّ الذي تحمله الكنيسة المارونيّة، وهو مشترك مع الكنائس الأنطاكيّة الأخرى. في أنطاكيّة انفتحت الكنيسة على الأمم، فأضحت «بنت الشعوب» تعيش الوحدة في الايمان والشركة ضمن أطر التعدّديّة التي وسمت شعوب المنطقة من خلال تنوّع الحضارات والثقافات واللغات (أنظر النص 2: هويّة الكنيسة المارونيّة ودعوتها ورسالتها).
الخطّة الراعويّة تنطلق وتنتهي بيسوع المسيح، الألف والياء، ونقطة الدائرة في تاريخ البشر الخلاصيّ، كما بيّن إنجيل نسبه الانحداريّ والتصاعديّ. إنّه قاعدة الوحدة في التنوّع.
أ- في هذا الأسبوع السابق لميلاد الربّ يسوع، بعد مسيرة الاستعداد، المعروفة بزمن المجيء، يلتقي أبناء الرعيّة وبناتها، وأفراد العائلة، وأعضاء الجماعات الديريّة والمؤسّسات والمنظّمات الرسوليّة وسواها، للتعمّق في ميزة الكنيسة على أنّها «وحدة في التنوّع» على مستويات ثلاثة: في إطار الكنيسة الكاثوليكيّة، وضمن العلاقات مع الكنائس الأخرى، وفي العيش المشترك مع المسلمين. الارشاد الرسوليّ «رجاء جديد للبنان» يرسم خطوط هذه «الوحدة في التنوّع» (عدد 8-14). إنّه لقاء تعمّق في المبادىء، وتقييم للواقع، ورسم خطّة حياتيّة للمستقبل نلتزم بها.
ب- يوصي المجمع البطريركيّ باستعادة التراث الأنطاكيّ القائم على الوحدة في التنوّع، في أبعاده اللاهوتيّة والروحيّة والليتورجيّة. يحتاج مجتمعنا وتحتاج رعايانا وطوائفنا إلى وعي هذا التراث وترجمته في حياتنا اليوميّة الاجتماعيّة والكنسيّة والوطنيّة، لنعيش جمال الشركة بين الأشخاص المتنوّعين ثقافة ورؤية وتطلّعات، ونبني وحدة الجسم المتناغمة أعضاؤه في توظيف المواهب والقدرات والمهارات لتوفير الخير العام، الذي هو «مجموعة الأوضاع الاجتماعيّة التي تمكّن المجموعات وكلّ واحد من أعضائها من بلوغ كامل حقوقهم والواجبات» (الكنيسة في عالم اليوم، 26).
ج- النصّ الأوّل من نصوص المجمع البطريركيّ المارونيّ يحمل عنوان «كنيسة الرجاء»،ويوصي بتجديد رجائنا الذي هو المسيح، كما تبرّره لنا صلواتنا الليتورجيّة. تستعرض جماعاتنا الراعويّة علامات الرجاء في كلّ من الرعيّة والأسرة والمنظّمة والمؤسّسة وأيّ جماعة ومجموعة أخرى، لتتجاوز محن الحاضر وصعوباته بفرح الرجاء. ذكّرنا السينودس من أجل لبنان أنّ الرجاء التزام: «فالمسيح رجاؤنا، بروحه نتجدّد، ومعًا لمحبّته نشهد».
صلاة
بميلادك يا ربّ، حلّ السلام على الأرض وصار الرجاء لبني البشر الذين كانوا في القديم غرباء أجانب، صاروا اليوم أبناء الميراث وبني بيت الله. في ذلك اليوم، كانت الأرض تستعدّ. واليوم، نستعدّ نحن لنحتفل بذكرى مولدك ونقدّم الهدايا والقرابين. في ذلك اليوم تاق الأنبياء إلى رؤيتك، وتنبأوا عن ميلادك. واليوم، يفرح الأبرار ويبتهجون: فقد تحقّقت بميلادك النبوءات وتمّ الخلاص، وانتشر الرسل في العالم يبشّرون بك، وقام الشهداء يبذلون حياتهم في سبيلك. لك المجد إلى الأبد، آمين.
*****
Discussion about this post