الأحد الرابع بعد الدنح
الحوار وملاقاة الحقيقة
إنجيل القديس يوحنا 4/5-25
أجرى يسوع هذا الحوار مع المرأة السامرية على مقربة من بئر ماء معروف ببئر يعقوب في مدينة سوكار على سفح جبل جرزيم حيث كان للسامريين هيكل يكتبون على حجارته كلمات الشريعة كتابة واضحة، ومذبح يقدمون عليه ذبائح ومحرقات للرب، ويأكلونها هناك ويفرحون أمام الرب الههم، وقد سماه موسى ” جبل البركة” (تثنية الاشتراع27/4-12). تحدث معها عن أعمق أسرار الله: عن ماء الحياة الأبدية، وعن الله الذي هو روح ويملأ الناس من حياته الإلهية، وعن العبادة الحقيقية المتوجبة للآب بالروح والحق. وأعلن لها أخيراً أنه هو المسيح المنتظر (يو4/25-26). وكانت نتيجة هذا الحوار أن السامرية، بالرغم من أنها “خاطئة”، أصبحت ” تلميذة ” للمسيح ورسولة. فمن بعد أن عرفته، بشرّت به أهل السامرية، فاستقبلوه بإيمان (يو4/39-42).
أولاً، الحوار الرائع في نص الإنجيل
1. إطار الحوار وأبعاده
يصل يسوع إلى بئر يعقوب وقد أعياه التعب الحسّي من الطريق (يو4/6)، والتعب النفسي من الفريسيين الذين كانوا يترصدونه، فترك منطقتهم اليهودية قاصداً الجليل (يو4/1-3). وكان لا بدّ من أن يمرّ بالسامرة، فتوقف في سوكار حيث بئر يعقوب.
علّق القديس اغسطينوس على تعب يسوع وضعفه، قال: ” خلقنا المسيح بقوته، وأتى يبحث عنا ليخلقنا من جديد بضعفه” ( شرح انجيل يوحنا، العظة 15، المقدمة). وأضاف: ” في الأسرار العظيمة التي عرضها للمرأة تجد كل نفس جائعة ما تغتذي به، وكل نفس تعبة ما يجدد قواها” (المرجع نفسه، عدد1).
لم يكن بئر يعقوب مجرد بئر لتجميع المياه، بل كان فيه ينبوع جارٍ. على حافته جلس يسوع، والتعب قد أعباه، منتظراً من يأتي ليحييه هو من تعبه، ” فالذي اوجده من العدم بقوته، يحميه من الهلاك بضعفه” (القديس اغسطينوس، المرجع نفسه، عدد6). وصلت المرأة السامرية لتستقي ماء. وكان اليهود يعتبرون السامريين غرباء. جاء يسوع يكسر بواسطة المرأة هذه المسافة وهذا ” البعد”، فآمنت هي به وآمن كثيرون (يو4/41). إنها معهم صورة الكنيسة الناشئة من الأمم، من ” البعيدين والغرباء”. إن الحوار هو قوة الكنيسة التي تجتذب الشعوب.
جلس يسوع على حافة البئر عطشاناً، ليروي عطش الآتين إليه من الإيمان به، فكانت المرأة تلك العطشى بامتياز إلى “روح القدس الذي سيرويها.
2. وقائع الحوار وتدرجه
بادر يسوع المرأة، طالباً أن تعطيه ماء ليشرب. المبادرة الأولى هي دائماً من الله، الذي يضع نفسه على طريقنا. واجهته بالرفض: ” كيف تطلب مني انا السامرية ماء لتشرب، وأنت يهودي”. أما هو، ولو بكلمات غير مفهومة منها، وبشكل محتجب أرشدها، إلى عطية الله التي هي الماء الحي، رمز الروح القدس، وإلى شخصية الطالب منها الذي هو المسيح (يو4/10-11)، كما سيكشف لها (يو4/26). لقد فهمته مادياً، إذ كيف يستطيع أن يعدها بما كان يطلبه منها: ” فالبئر عميق، وليس له دلوٌ”.
عاد من جديد يحدثها عن الماء الروحي: ” من يشرب من ماء بئر يعقوب يعطش، ومن يشرب من الماء الذي أعطيه أنا لن يعطش إلى الأبد، بل يصير عنده معين ماء يجري للحياة الأبدية” ( يو4/14). ولكنها لم تفهم إلا مادياً، فقالت له بشيء من السخرية: ” أعطني من هذا الماء، حتى لا اعطش بعد، واجيء إلى هنا وأدلي بدلوي”.
هنا دخل يسوع الى عمق نفسها وسرّ خطيئتها ليرويها بماء الروح القدس، فأمرها: ” اذهبي وادعي زوجك وعودي الى هنا” ( يو4/16). فاعطت جواباً، تصفه كذب والنصف الآخر حقيقة: ” ليس لي زوج”. فكشف لها الحقيقة كلها: ” كان لك خمسة أزواج، والزوج الذي هو لك الآن، ليس زوجك، بهذا صدقت”.
ما أكبر عطش هذه المرأة الى ماء الروح القدس، الماء الحي! ما أحوجها الى الحقيقة التي تخرجها من أسر كذبها، وتحررها من قيود خطيئتها! بالسؤال والجواب، أوقفها يسوع أمام حقيقة نفسها الداخلية، وحسّسها بالعطش الحقيقي الذي لا يمكن لبئر يعقوب أن ترويه. لا شيء يوقف الإنسان عن الازدواجية سوى حقيقة نفسه المكشوفة أمامه، فيما كان يخبئها بأكاذيب واهية. ولا شيء يحمل الإنسان إلى الجديّة وقرار التغيير سوى وقوفه بوضوح لا يقبل الشك أمام واقعه المنحرف. فالمتهم بجرم لا يعترف به إلا عندما يضعه القاضي أمام الحقيقة الواضحة، فيقرّ بها ويمثّل الجريمة. شاوول- بولس، مضطهد الكنيسة، قرر التغيير عندما أسقطه الرب عن جواده، وهو في طريقه الى دمشق للإمعان في الاضطهاد، وأعمى عينيه في وضح النهار، وكاشفه بأنه يضطهد يسوع الناصري نفسه. أمام الواقع والحقيقة قال: ” ماذا تريد أن أفعل؟” (اعمال 9/3-6). هو سلطان يسوع، سلطان الحق على الضمير البشري، يوقظه ويحرّكه.
الآن تقف المرأة السامرية أمام الحقيقة وتعلنها بالقول: ” يا سيدي، أنا أرى أنك نبي” (يو4/19). وهكذا ارتفعت الى مستوى الروح، فسألته عن قضية العبادة لله: أهي على جبل السامرة كما يعتقد السامريون، أم في أورشليم حسب زعم اليهود؟ فأجابها يسوع: ” آمني، يا امرأة، بما أقول لك: أتت الساعة لأن تسجدوا لله لا في هذا الجبل ولا في أروشليم، بل بالروح والحق تسجدون”. فارتفعت بفهمها اكثر فأكثر، حتى بلغت الى مستوى حقيقة المسيح، وقالت: ” المسيح عندما يأتي يعلمنا كل شيء”. لقد وصلت، من حيث لا تدري، إلى ” الماء الحي” الذي يعطيه المسيح، راجية التماسه عندما يأتي. أما يسوع، فمن بعد أن كشف لها حقيقتها الشخصية، كشف لها عن حقيقة ذاته قائلاً: ” أنا هو المسيح، أنا الذي يتكلم معك” (يو4/21).
ارتوت المرأة من ” الماء الحي” الذي حدّثها عنه في البداية، فاستغنت عن ماء البئر. تركت جرّتها وأسرعت الى المدينة تخبرهم أنها وجدت المسيح ( انظر يوحنا 4/27-30)، وكأنها تدعوهم للارتواء من معينه بلسان آشعيا: ” أيها العطاش جميعاً، هلموا استقوا المياه من ينابيع الخلاص مبتهجين، فإن القدوس في وسطكم” (اشعيا12/3و6؛55/1).
“الماء الحي” الذي أروى السامرية أصبح فيها، على ما تنبأ يسوع، ” معين ماء يجري للحياة الأبدية” (يو4/14)، اي ملأها من الروح القدس، الذي سوف يقبله المؤمنون به ( يو 7/38-39). فصارت رسولة المسيح الشاهدة له. ولكلام شهادتها، خرج الناس من المدينة، وأتوا إلى يسوع. وآمن به كثير من السامريين (يو4/30 و39).
الدعوة إياها سيوجهها يسوع نفسه: ” من هو عطشان، فليأتِ اليَّ ويشرب، من يؤمن بي، كما قالت الكتب، تجري من جوفه انهار ماء الحياة” ( يو7/37-38). وسيرددها بلسان يوحنا الرسول من على عرشه في السماء: ” ها أنا جاعل كل شيء جديداً… أنا الالف والياء، الأول والآخر. أنا أعطي العطشان من معين ماء الحياة مجاناً” ( رؤيا 21/5-7).
3. يسوع نموذج كل حوار
يسوع المسيح، الكلمة الإلهي، هو ” نور الحق الذي ينير كل إنسان آتٍ الى العالم” (يو1/9). وهو كلمة حوار الله مع الإنسان: ” فمن بعد أن كلم الله آباءنا منذ القديم بأنواع شتى، كلمنا في هذه الأيام الأخيرة، بابنه الذي هو ضياء مجده، وصورة جوهره، وضابط الكل بقوة كلمته (عبرانيين 1/1-3).
في شخصه تمّ حوار الألوهة والإنسانية، بأقنومه الإلهي جمع بين كمال الطبيعتين، على ما علّم مجمع خلقيدونيه (451)، فكان إلهاً كامل الألوهة وإنساناً كامل الإنسانية. وبات يسوع الصورة لكل إنسان مدعوٍ منذ مولده ليدخل في حوار عميق مع الله وجميع الناس (الكنيسة في عالم اليوم،19)، وصورة الكنيسة المؤتمنة على الحوار مع العالم بحكم رسالتها، وهي ان يستنير جميع الشعوب بنداء الإنجيل، وأن يجتمع بروح واحد جميع الناس من كل أمة وجنس وحضارة (المرجع نفسه،92).
حوار يسوع مع السامرية يبرز قيمة كل حوار، ويحدد مساره: من يريده حقاً يباشر بالخطوة الأولى، كما بادر يسوع بالطلب من المرأة ليشرب. ويقابل الرفض بطرح الموضوع الذي هو غاية الحوار البعيدة؛ في الحوار مع السامرية كان الموضوع الماء الحي. ربما يلقى الاستهتار أو الازدراء من قبل المحاور الآخر أو التقليل من قيمة ما يطرح، كما فعلت السامرية. لا بد من الصبر والتواضع لتذهب إلى أعمق، من خلال الولوج إلى شخصية الآخر، فتطرح عليه أمراً يعنيه في الصميم: ” اذهبي وادعي زوجك”. هي المرحلة التي تصل بالآخر إلى قول الحقيقة المجردة، والسير نحو الغاية المنشودة من خلال حوار وجداني، مثل المرأة التي من بعد أن رأت في شخص يسوع نبياً ومسيحاً، ارتوت من ” ماء الحياة” آمنت، وتفجر في داخلها ينبوع ماء حملها على الشهادة للمسيح وجلب الكثيرين من البعيدين إليه، فارتووا بدورهم، وشهدوا: “نحن آمنا وعرفنا أن هذا هو المسيح حقاً، مخلص العالم” (يو4/42).
هذا الحوار، وهو من أجمل الحوارات في الإنجيل، بلغ إلى إعلان كرامة المرأة ودعوتها، فيما التلاميذ ” تعجبوا إذ رأوه يحادث امرأة” (يو4/27)، لأن هذا التصرف كان يتنافى مع العوائد المرعية لدى معاصريه. لاقاها يسوع على بئر سوكار، وعلى علمه بأنها خاطئة، فاتحها في أمر خطيئتها مع الرجال الخمسة، وتحدث معها عن أعمق أسرار الله وعن عطية الحب الإلهي غير المتناهية، التي شبّهها ” بينبوع ماء يجري للحياة الأبدية” (يو4/14)، وعن الله، الذي هو روح، وعن العبادة الحقيقية المتوجبة للآب بالروح والحق (يو4/24). وأعلن لها اخيراً انه هو المسيح الذي وعد الله به شعبه (يو4/26).
لا أحد منا يدرك مسبقاً نتائج الحوار الصادق مع الآخر. فالمرأة السامرية، بالرغم من أنها خاطئة، أصبحت ” تلميذة” المسيح. بل إنها، بعد أن عرفته، بشرّت به أهل السامرة، بحيث أنهم، هم أيضاً استقبلوه بإيمان (يو4/39-42).
كل هذا الذي جرى بين يسوع والمرأة السامرية يبيّن عطية الله التي بدأ يسوع بإعلانها في بداية حواره: ” لو كنت تعرفين عطية الله” (يو14/10). هذه ” العطية” هي تقدير الرب لكرامتها، وكرامة كل امرأة، وللدعوة التي تؤهلها للمشاركة في رسالة المسيح (البابا يوحنا بولس الثاني، كرامة المرأة، 31). و”العطية” هي سرّ فداء الإنسان الذي شمل، في هذه اللوحة الإنجيلية، كرامة المرأة ودعوتها، وقد نصّب المسيح نفسه أمام معاصريه مدافعاً عنها (المرجع نفسه،12).
***
ثانيا، الخطة الراعوية
يبيّن الحوار بين يسوع والمرأة السامرية كم نحن بحاجة إلى أن نتحاور: الزوج مع زوجته، الوالدون مع أولادهم، الجيران مع سكان الحي الواحد، السلطة مع شعبها، الثقافات والأديان مع بعضها، أفراد الجماعة الواحدة في المنظمة والمؤسسة والدير والرعية، وبين الأجيال الكبيرة مع الصغيرة.
1) في هذا الأسبوع، نحن مدعوون لتعزيز الحوار الحقيقي المرتكز على احترام متبادل لكرامة الأشخاص وحرية الضمير والعمل معاً على حفظ الانصاف والعدالة وقيم الحرية والسلام، وعلى السعي الى توبة القلب وإحلال المحبة والأخوّة، وعلى التفاني في سبيل كل عمل صالح ( رجاء جديد للبنان، 89).
2) يوصي المجمع البطريركي الماروني:
أ- الأزواج وافراد العائلة بالحوار المحب، القائم على الاحترام والتكامل، الذي هو الطريق الملوكي لسعادتهم الزوجية والعائلية. فالزواج والأسرة يرتكزان على عهد الحب والحياة، قطعه الأزواج مع بعضهم ومع الله ومع الأجيال المتحدرة منهم. يحدد النص المجمعي العاشر، بعنوان ” العائلة المسيحية”، عناصر هذا العهد: إنه مبني على الرضى المتبادل بين الزوجين والانفتاح لقبول هبة الحياة من الله في الأولاد، وعلى كلمة الله والإنجيل وبركة الثالوث القدوس، وعلى الأمانة والحياة المشتركة (الفقرات 45-58).
ب- أبناء الكنيسة في لبنان، بحكم تجربتهم التاريخية والصيغة اللبنانية المرتكزة على التنوع في الوحدة، يوصيهم المجمع، في النص 15: ” تحديد عالم اليوم بالنسبة الى الكنيسة المارونية”، بالتأقلم مع البيئة التي يعيشون فيها، معززين حوار الحضارات. فالكنيسة هي كنيسة الحوار والعيش معاً بين مختلف الأديان والكنائس. خاصة وإننا نحن اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، ننتمي إلى تراث واحد ومصير واحد ولغة واحدة وتاريخ واحد؛ مهما كانت الفوارق، وهذا أمر طبيعي، ومهما كانت الاختبارات متنوعة بين حلو ومرّ، يبقى ان ما يجمع هو اكثر مما يفرق. إن الحوار يهدف إلى تثبيت الحرية والعدالة والديموقراطية واحترام الآخر، والى العيش المشترك في لبنان، والمصير المشترك في العالم العربي، وحوار الحضارالت في الانتشار (الفقرات 24-30).
3) تتشاور الجماعات: أبناء وبنات الرعية، أفراد العائلة، الجماعة الديرية، المنظمة الرسولية، أعضاء اللجان، في ضوء النص الإنجيلي كيف يجسّدون في حياتهم وعلاقاتهم طبيعة الكنيسة التي إليها ينتمون، وهي ” أن الإنسان هو طريقها، كما كان طريق المسيح” (البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته فادي الانسان)، وأنها ” خبيرة في الإنسانية” (البابا بولس السادس) و” خبيرة في الحوار” ( النص المجمعي 15، فقرة 23 و25). لا بدّ من ابتكار مبادرات حوار تعزز التلاقي وكرامة الإنسان.
صلاة
يا يسوع المسيح، الكلمة التي تجسدت لتحاور كل إنسان، لقد أظهرت لنا سرّ الله وسرّ الإنسان، ومعنى التاريخ. أهلنا، بمحبة الآب لنا وبأنوار روحك القدوس، لأن نواصل الحوار بين السماء والأرض، بين بعضنا البعض. فيعم السلام العادل، ويسعد الناس بدفء المحبة، وينعم الجميع بفرح التلاقي، ويتأنسن المجتمع، وتنكشف كرامة الأشخاص والاوطان. لك المجد إلى الأبد. آمين
Discussion about this post