الأحد الثالث بعد الدنح
الإنسان الجديد المولود من الإيمان والمعمودية
رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية: 3/23-29
إنجيل القديس يوحنا 3/1-16
في زمن الدنح نتذكر إيماننا ومعموديتنا، وقد أصبحنا بهما ” إنساناً جديداً مخلوقاً على صورة الله في البّر والقداسة الآتيتين من الحقيقة” (افسس4/24). نتذكر لكي نتجدد في هذا الإنسان الجديد، عائشين مقتضياته وفقاً لتعليم القديس بولس الرسول وتعليم الانجيل.
أولاً، عام القديس بولس وشرح الرسالة والإنجيل
التبرير بالإيمان والمعمودية
1. رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية: 3/23-29
فَقَبْلَ أَنْ يَأْتيَ الإِيْمَان، كُنَّا مُحْتَجَزِينَ مَحبُوسِينَ تَحْتَ الشَّرِيعَة، إِلى أَنْ يُعْلَنَ الإِيْمَانُ الـمُنْتَظَر. إِذًا فَالشَّرِيعَةُ كَانَتْ لَنَا مُؤَدِّبًا يَقُودُنَا إِلى الـمَسِيح، لِكَيْ نُبَرَّرَ بِالإِيْمَان. فَلَمَّا أَتَى الإِيْمَان، لَمْ نَعُدْ تَحْتَ مُؤَدِّب؛لأَنَّكُم جَمِيعًا أَبْنَاءُ اللهِ بَالإِيْمَان، في الـمَسِيحِ يَسُوع. فأَنْتُم جَمِيعَ الَّذِينَ اعْتَمَدْتُم في الـمَسِيحِ قَدْ لَبِسْتُمُ الـمَسِيح. فلا يَهُودِيٌّ بَعْدُ ولا يُونَانِيّ، لا عَبْدٌ ولا حُرّ، لاَ ذَكَرٌ ولا أُنْثَى، فإِنَّكُم جَمِيعًا وَاحِدٌ في الـمَسِيحِ يَسُوع. فَإِنْ كُنْتُم لِلمَسِيح، فأَنْتُم إِذًا نَسْلُ إِبْراهِيم، ووَارِثُونَ بِحَسَبِ الوَعْد.
يؤكد بولس الرسول أن الإنسان يتبرر بالإيمان بيسوع المسيح وبالمعمودية، لا من الشريعة التي قادت شعب الله القديم او سواه. فالشريعة (الناموس) إنما هي طريق يرشد الإنسان إلى المسيح لكي يتبرر بالإيمان. والإيمان يصبح لنا المرشد في المسلك والموقف.
الإيمان بالمسيح يكتمل بالمعمودية، فيلبس المؤمن ثوب النعمة المبرَّرة، وينزرع فيه الإنسان الجديد على صورة المسيح. عبّر بولس عن هذه الحقيقة بقوله الذي أصبح نشيداً مسيحانياً: ” أنتم الذين اعتمدتم بالمسيح، قد لبستم المسيح” ( غلا3/27). هذا يعني أن المعمودية اغتسال يطهّر ويقدس ويبرر(1كور6/11)، وأنها موت وقيامة مع المسيح: موت عن الخطيئة والإنسان القديم، وقيامة للنعمة والإنسان الجديد. الثوب الابيض يرمز إلى أن المعمّد ” لبس المسيح”، والشمعة المضاءة تعني أن المسيح أناره، وأنه أصبح بالمسيح “نور العالم” ( متى5/14).
بالإيمان والمعمودية تظهر وحدة جسد المسيح في تعددية الأعضاء. هذه الوحدة تنتصرعلى كل الانقسامات البشرية، ” فليس يهودي بعد ولا رومي ولا عبد ولا حرّ ولا ذكر ولا أنثى، بل كلكم واحد في يسوع المسيح” ( غلا3/28).
يعلّم البابا بندكتوس السادس عشر[1] أن بولس الرسول يكشف، في رسالته إلى أهل غلاطية، العلاقة القائمة بين الإيمان والمحبة، وبين الإيمان والأعمال. فيقول الرسول أن “الإيمان يكمل بالمحبة” ( غلا5/6) التي هي أولى ثمار الروح القدس في المؤمن، ويتبعها الفرح والسلام والصبر واللطف والصلاح والتواضع (غلا5/22-23). ويدعو من ناحية أخرى إلى تجنب أعمال الجسد، الإنسان العتيق والانتصار عليها وهي: الدعارة والنجاسة والعداوة والخصومة والغضب والبدع والحسد والقتل والسّكر وما شابهها ( غلا5/19-21).
أما وأننا قد تبررنا بعطية الإيمان في المسيح، فنحن مدعوون لنعيش محبة المسيح تجاه القريب، كما علمنا إياها الرب يسوع في إنجيل الدينونة الأخيرة (متى25/31-46). هذه المحبة المسيحية تولد من محبة المسيح الشاملة جميع الناس. إنها تُلزم كل واحد منا بألاّ يعيش لنفسه، منغلقاً في أنانيته، بل ” في سبيل ذاك الذي مات وقام من أجلنا” ( 2كور 5/15). وبذلك تجعلنا خلقاً جديداً (2كور5/17)، وعضواً في جسده السرّي الذي هو الكنيسة.
هذه المحبة امتدحها بولس الرسول في نشيده (1كور13/1-8).
أما العلاقة بين الإيمان والأعمال فنجد التوسع فيها في رسالة القديس يعقوب الرسول الذي يؤكد: ” كما أن الجسد بدون روح ميتّ، كذلك الإيمان أيضاً هو ميت بدون أعمال”. والإيمان إذا اقتصر على الكلام ولا يترجم بالأعمال لا ينفع بشيء من كان في حاجة (انظر يعقوب2/2-4). الإيمان الحقيقي هو الذي يعمل في المحبة. عندئذٍ يكون شهادة للخلاص الذي نناله من الله بالإيمان بيسوع المسيح، وعلامة لعمل الله فينا الذي يحرّك منا الإرادة والأفعال.
يؤكد قداسة البابا بندكتوس السادس عشر أن المؤمن لا يستطيع استباحة كل شيء: المسلك العاطل، الخلافات والانقسامات في جسد المسيح الواحد، الذي هو الكنيسة، المشاركة في سرّ الأفخارستيا وإهمال الأخوة المعوزين، الاهتمام بالمواهب الخاصة من دون أي خدمة للأخوة. إن إيماناً لا يتجسّد في أعمال المحبة يصبح تحكماً شخصانياً منغلقاً على الذات، رأياً ورؤية ومصالح، وينزل الضرر الكبير في الأخوة. إن بولس الرسول يدعونا لنتذكر أن جسدنا هو هيكل الروح القدس، الساكن فينا، وقد قبلناه من الله، وأننا لسنا بعدُ لانفسنا ( انظر 1كور6/19).
2. الولادة من الماء والروح ( يوحنا 3/1-11)
المعمودية هي سرّ الإنارة. عن نورها كلّم الرب يسوع الوجيه نيقوديمس، رئيس اليهود، الذي قصده ليلاً، وهو يتخبط في ظلمة الشك والبحث عن الحقيقة. لقد نورّه بهذا التأكيد: ” إن لم يولد الإنسان ثانية من الماء والروح، لا يستطيع أن يدخل ملكوت الله. فالمولود من الجسد هو جسد، والمولود من الروح هو روح” ( يو3/5).
لفظة معمودية في اللغة اليونانية baptizein تعني النزول في الماء، مثل يسوع في مياه الاردن، وترمز إلى الدفن في موت المسيح والخروج منه بالقيامة معه خلقاً جديداً (2كور5/17؛ غلا6/15).
وتسمّى المعمودية ” غسل الميلاد الثاني والتجدد بالروح القدس” ( تيطس3/5)، لأنها تحقق الولادة من الماء والروح، وتدخل المعمّد في ملكوت الله الذي هو الكنيسة، أي في الشركة العمودية التي هي الاتحاد بالله الثالوث، وفي الشركة الأفقية التي هي الوحدة مع الناس. هذه الشركة المزدوجة هي دخول في الخلاص بالنسبة إلى الذين آمنوا بالمسيح وبإنجيله واعتمدوا بالماء والروح. فالمعمودية تطهرهم من خطاياهم وتوليهم الولادة الجديدة بالروح القدس، فيصيروا أبناء الله بالابن الوحيد، ومشاركين في الحياة الإلهية، وأعضاء في جسد المسيح الذي هو الكنيسة، وهياكل الروح القدس، ووارثي المجد السماوي (كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1265).
إن النعمة المبررة التي ينالها المعمّد هي حلول الروح القدس عليه الذي يمكنّه من ثلاثة:
– أن يؤمن بالله ويرجوه ويحبه.
– أن يعيش ويعمل بقيادة الروح القدس ومواهبه.
– أن ينمو في الخير مزيناً بالفضائل الخلقية.
وبهذا يعيش مقتضيات الإنسان الجديد (المرجع نفسه،1266).
***
ثانياً، البطاركة الموارنة ولبنان
البطريرك يوحنا الحلو ( 1809-1823)
هو من غوسطا-كسروان، كان في الأساس راهباً ثم نائباً بطريركياً. انتخبه بطريركاً مجمع المطارنة المنعقد في دير مار يوسف عينطوره في 8 حزيران 1809. منحه الشركة ودرع التثبيت البابا بيوس السابع ( 1800-1823) في 25 كانون الثاني 1810.
تميّز عهده بالاجراءات التالية:
1. تنفيذ قرارات المجمع اللبناني ( 1736) بتعيين كرسي خاص بكل أبرشية ليقيم فيه مطرانها، وفصل أديار الرهبان عن أديار الراهبات.
2. إعادة الكرسي البطريركي الى دير سيدة قنوبين، بعد نقله سنة 1808 إلى دير مار شليطا مقبس في غوسطا. وكان دير قنوبين مهجوراً منذ عهد البطريرك يعقوب عواد (1705-1733), فانتقل اليه البطريرك سنة 1811 بعد ترميمه.
3. عقد مجمع اللويزه في 13 نيسان 1818، المعروف بمجمع البطريرك يوحنا الحلو. ثبّت البابا بيوس السابع هذا المجمع في 25 أيار 1819. من مقراراته:
أ- تعيين 7 اديار للراهبات، و6 اديار للرهبان، و5 اديار للعابدات، عملاً بقرار المجمع اللبناني.
ب- إحياء مدرسة الروميّة في القليعات لتكون مدرسة عامة للطائفة.
ج- إقامة رؤساء ووكلاء على الأديار لترتيب وضبط مداخيلها.
4. عناية خاصة بانشاء المدارس، فإلى جانب مدرسة الروميّة في القليعات حوّل البطريرك دير مار يوحنا مارون في كفرحي (البترون) إلى مدرسة. كانت احدى المدارس الراقية في القرن التاسع عشر، وامتداداً لمدارس عصر النهضة العلمية في لبنان الذي أحياه الأفواج الاوائل من خريجي المدرسة المارونية في رومية (1584).
5. تعزيز القضاء. عرف البطريرك يوحنا الحلو برجل القانون. كان في البدء مطراناً مشهوراً بأحكامه القضائية في مواضيع مختلفة، إذ كانت صلاحيات الأساقفة تتناول، إلى جانب الأحوال الشخصية، الحق المدني والتجاري والجزائي. هذه الولاية كانت ترقى إلى عهد البيزنطيين فإلى عهد العثمانيين.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تبدأ الخطة اليوم بعرض النص المجمعي الثالث عشر:الرعية والعمل الرعوي. انه نص زاخر، يتضمن وضع الرعية اليوم، ومفهومها، ودورها في رسالة الكنيسة. ويتناول دور كاهن الرعية من خلال وظيفة التعليم والتقديس والتدبير. ويكشف أهمية المنظمات والحركات الرسولية. والكل يهدف إلى مساعدة المؤمنين بالمسيح العلمانيين على اكتشاف دعوتهم وإبعاد انتمائهم إلى الرعية، كوسيلة للإنتماء إلى يسوع المسيح.
الرعية المارونية في الأساس ريفية، لأن الموارنة عاشوا منذ البداية في الأرياف. والمجتمع الريفي متميّز بالعلاقات الاجتماعية الوطيدة بنتيجة أواصر القربى بعضهم الى بعض، ما ولّد حسّ التضامن والمشاركة والبقاء على قلب واحد من أجل الصمود بوجه المصاعب والمحن. وكانت ممارسة ” العونة” لبناء بيت او قطف كرم أو مساعدة مريض. واليوم تمارس في بناء الكنائس والقاعات الرعائية والأندية وسواها من مشاريع عامة.
هذا الواقع انعكس على الحياة الرعوية. فكانت كنيسة الرعية مكان اجتماع أهل القرية، تقدم لهم فرص الالتقاء كالأعياد الكبيرة، وعيد شفيع الرعية، واحتفالات الأكاليل والجنازات وغيرها. وهكذا كانت الحياة الاجتماعية والحياة في الرعية تتدخلان.
ولعبت الأديار دوراً مهماً في حياة الرعية الريفية. فكان يلتّف حولها المؤمنون في شركة حياتية. الرهبان، تمتّد الى الحياة الليتورجية والصلوات والالتزامات الدينية بالاتكال على العناية الطقسية. فكان للعلمانيين روحانية طبعت أعمالهم وحياتهم اليومية بالاتكال على العناية الإلهية، وأغنتها بالخلقية وقيم التضحية.
وكان لكاهن الرعية المقيم في القرية ومع أهلها حضور مميّز: إحياء القداس اليومي والرتب والتساعيات، تعليم الأولاد، زيارة المرضى، الوقوف على حالة العائلات وحاجاتها. ما جعله مرجعاً مهماً لأبناء القرية-الرعية.
نجد التنظيمات للرعية والعمل الراعوي وطريقة خدمة الأسرار في مجمع قنوبين المنعقد سنة 1580 والمجامع اللاحقة: قنوبين 1696، وضيعة موسى 1598، وحراش 1644. أما المجمع اللبناني المنعقد في دير سيدة اللويزه سنة 1736، فقد أسحب في موضوع الرعية وكاهنها وترتيب العمل الرعوي من حيث خدمة الاسرار والوعظ والإرشاد والتعليم للأولاد، وتنظيم سجلات المعمّدين والمتزوجين والمتوفين، وما يختّص بنظافة الهيكل والمذابح والأواني، وصيانة الزيوت المقدسة وحوض المعمودية.
وننوّه أخيراً بحوار المحبة في الحياة اليومية الذي عاشه الموارنة مع سكان رعيتهم من الطوائف والأديان الاخرى، والذي تميّز بالانفتاح والمشاركة، بعيداً عن المجالات الدينية والسياسية (الفقرات 1-7).
***
صلاة
أيها الرب يسوع، يا ابن الله المتجسّد، لقد أشركتنا في البنوة الإلهية، بواسطة الإيمان والمعمودية. فأعطيتنا نعمة الولادة الثانية من الماء والروح، وألبستنا إنساناً جديداً. ساعدنا، بانوار الروح القدس وقوة مواهبه، أن نسلك بموجب مقتضيات الإنسان الجديد، وفقاً لثمار الروح. أعطنا ان نقرن الإيمان بأعمال المحبة الشاملة والمنفتحة على كل حالة من حالات إخوتنا. زيّنا بالفضائل الإلهية الايمان والرجاء والمحبة، لحياة العقل في الحق، والإرادة في الخير، والقلب في المحبة. أفض علينا مواهب روحك القدوس لنعيش ونعمل على هديها. جمّلنا بالفضائل الأخلاقية لنشهد في القول والعمل والمسلك لانساننا الجديد. اجعل من رعايانا حقلاً ينمو فيه ملكوت الله من خلال عيشنا شركة الاتحاد بالله، وشركة الوحدة فيما بيننا. لك أيها الثالوث المجيد الآب والابن والروح القدس كل مجد وتسبيح وحمد، الآن وإلى الأبد، آمين.
[1] . خطاب البابا بندكتوس السادس عشر في المقابلة العامة، الاربعاء 26 تشرين الثاني 2008
No Result
View All Result
Discussion about this post