احد الأبرار والصديقين
المشاركة في كهنوت المسيح بالمحبة والرحمة
إنجيل القديس متى25/31-46
تذكرالكنيسة اليوم وطيلة الأسبوع بالتسبيح والتكريم أصفياء الله، الأبرار والصديقين، الذين دخلوا الملكوت السماوي، بعد أن تقدسوا بمحبة الآب ونعمة الابن وشركة الروح القدس، وهم يشكلون حول الثالوث القدوس “كنيسة السماء”. إنهم مريم والدة الإله، ويوسف البتول، الأنبياء والرسل، الشهداء والمعترفون، القديسون والمختارون. يسمّيهم الإنجيل” بني اليمين” الذين يجلسهم فادي العالم وديانه، يسوع المسيح، عن يمينه. تقول عنهم ليتورجيا الفرض الإلهي: “على قمم الروح عاشوا، ومنها إلى الله طاروا “.
وتستشفعهم “كنيسة الأرض المجاهدة” لكي يضرعوا إلى الله من أجل أبنائها وبناتها، ليحفظهم في السعي إليه كما سعوا هم وفقاً لمقتضيات معموديتهم، فيما يوطّدون على الأرض ملكوت السماوات. وتستشفعهم من أجل ” الكنيسة المتألمة” في حالة المطهر، أي من أجل أبنائها وبناتها المخلَّصين الذين يتطهرون ” بالنار” من نتائج خطاياهم، قبل مشاهدة وجه الله ( التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية،1030-1031).
وتتأمل في سيرتهم، لكي يكونوا مثالاً يحتذى به وقدوة للمؤمنين، لكونهم معلمي الحياة الروحية، وشهود إيمان ورجاء ومحبة.
أولاً، تفسير الإنجيل
1.الدينونة العامة
إنه إنجيل الدينونة الأخيرة: في حقيقتها ومضمونها وغايتها وإجرائها.
حقيقة الدينونة راهنة ولا لُبس فيها. وصفها الأنبياء بيوم الرب العظيم، إذ تقف بين يديه ربوات ربوات، ويجلس أهل القضاء ويُفتح الكتاب الذي تُدون فيه جميع صالحات الإنسان وسيئاته ( دانيال7/10؛ ملاخي3/16). هو الرب يجمع كل الأمم وينزلهم إلى وادي يوشفاط ويحاكمهم هناك (يوئيل3/2). لفظة يوشفاط تعني “الله يدين”، وأصبحت الاسم الرمزي ” للمكان ” الذي تتم فيه الدينونة: ” لتنهض الأمم وتصعد إلى وادي يوشفاط فاني هناك أجلس لأدين جميع الأمم من كل ناحية ” ( يوئيل3/12)، ويسميها يوئيل النبي “وادي القرار” (3/14)، وحُدد مكانها بالقرب من أورشليم، وهي “وادي قدرون” في الجنوب الشرقي للهيكل. يصف يوحنا الرسول الدينونة في رؤياه: “ورأيت عرشاً عظيماً أبيض والجالس عليه…ورأيت الأموات كباراً وصغاراً قائمين أمام العرش. وفُتحت كتب (دوّنت فيها اعمال البشر)، وفُتح كتاب آخر هو سفر الحياة ( السجل السماوي الذي تدون فيه أسماء المختارين). فحوكم الأموات واحداً واحداً وفقاً لما دُوّن في الكتب، على قدر أعمالهم (رؤيا20/11-13).
مضمون الدينونة يدور حول كيفية قبول النعمة من الله والتفاعل معها بالتوبة والسلوك في الحياة الجديدة ( انظر متى11/20-24)حيث يسوع يعنّف بيت صيدا وكفرناحوم، وفي متى12/41-42: الجيل الفاسد الذي لم يتب بانذار يونان)، ويدور بالتالي حول موقف الإنسان تجاه أخيه بالمحبة والرحمة، حيث ينكشف حسن استقبال النعمة والمحبة الإلهية أو رفضها، كما يظهر في إنجيل اليوم.
غاية الدينونة الثواب أو العقاب وفقاً لأعمال كل إنسان، خيراً كانت أم شراً، وقد جاء ابن الله ليخلص الإنسان، “فالله لم يرسل ابنه إلى العالم ليدين العالم بل ليخلص العالم “(يو3/17)، وليعطيه الحياة الإلهية: ” أتيت لتكون لهم الحياة وتفيض فيهم ” (يو10/10). فمن يقبل نعمة الله ويحيا بموجبها ينال الخلاص الأبدي، ومن يرفضها ويرفض روح المحبة الذي هو الروح القدس (متى12/32)، ينالالهلاك الأبدي الذي استحقته أعماله.
أما مُجري الدينونة فهو يسوع المسيح، ابن الإنسان. إنه سيد الحياة الأبدية، وله أن يحكم نهائياً على أعمال البشر وقلوبهم، بكونه فادي العالم. ولقد اكتسب بصليبه هذا الحق، ففوّض الآب اليه كل دينونة (يو5/22؛ التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية 679).
إنها الدينونة الأخيرة بالنسبة إلى دينونتين سابقتين: واحدة عند ساعة الموت لكل واحد منا، كما يؤكد مثل لعازر والغني (لو16/19-31)، وخلاص لص اليمين (لو23/43)، وكلام بولس الرسول: ” لا بدّ لنا جميعاً من ان يُكشف أمرنا أمام محكمة المسيح لينال كل واحد جزاء ما عمل وهو في الجسد، خيراً كان أم شراً ” (2كور5/10؛ التعليم المسيحي 1021-1022). وواحدة في سر التوبة حيث يخضع الخاطىء لحكم الله الرحوم، ويستبق نوعاً ما الحكم الذي سوف يخضع له في ختام حياته التاريخية. سرّ التوبة عطية عظمى من محبة الله، لأنه يمكّن الإنسان، إذا ما ارتد إلى المسيح بالتوبة والإيمان، من أن ينتقل من الموت إلى الحياة ولا يخضع للدينونة (يو5/24). فالتوبة هي الباب المفتوح أمامنا لدخول ملكوت السماء (التعليم المسيحي 1470).
2- الأبرار والصديقون هم الذين عاشوا مقتضيات معموديتهم في المحبة والرحمة
نعمة الله، التي يقبلها الأبرار فيخلصوا، ويرفضها الأشرار فيهلكوا، إنما تعطى لنا في سرّ المعمودية وتتجلى في الحياة الجديدة التي نحياها في الكهنوت العام، مشاركين في كهنوت المسيح.
الكهنوت العام هو كهنوت كل المعمدين، وقد أصبحوا، كما يقول بطرس الرسول: “الجيل المختار، الكهنوت الملوكي، الأمّة المقدسة، الشعب المقتنى، ليخبروا بفضائل الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب” (1بطرس2/9). أصبحوا كذلك بفضل مسحة الروح القدس التي قبلوها في المعمودية. كانت المسحة تُعطى، في العهد القديم، للملك والكاهن، اما في العهد الجديد فتُعطى لجميع المسيحيين على ما يقول القديس اغسطينوس: ” إن رأسنا المسيح لم يتقبل وحده المسحة، بل نحن أيضاً تقبلناها معه، لأننا جسده وإذا كنا جسد المسيح، فهذا ناجم بوضوح عن كوننا قد تقبلنا المسحة، وأصبحنا في المسيح ممسوحين ومسحاء، لأن الرأس والجسد يؤلفان، على وجه ما، المسيح الكامل. وكما أننا ندعى جميعاً مسيحيين بسبب المسحة السرية، كذلك ندعى جميعنا كهنة لاننا كلنا اعضاء في جسد الكاهن الاوحد ( الارشاد الرسولي للبابا يوحنا بولس الثاني: العلمانيون المؤمنون بالمسيح، عدد14). لقد تبسّط المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في مفهوم الكهنوت العام في الدستور العقائدي “في الكنيسة ” (عدد 34-36). إنه الكهنوت العام بالنسبة إلى كهنوت الدرجة المقدسة، المعروف بكهنوت الخدمة. وكلاهما يشتركان، على نحو خاص في كهنوت المسيح الواحد. ولئن كانت المشاركة في رسالة المسيح هي مشاركة في الخدمة الكهنوتية والنبوية والملوكية، فإنها تختلف في كهنوت الخدمة عنها في الكهنوت العام، لأن الأول، بما له من سلطان مقدس، ينشىء الثاني الذي وهو الشعب الكهنوتي، ويقوده ويوجهه إلى عيش كهنوته العام.
الأبرار والصديقون هم الذين تقدسوا من خلال ممارسة رسالة كهنوتهم ،سواء في كهنوت الخدمة بالنسبة إلى الذين مُنحوا سرّ الدرجة المقدسة في الاسقفية والكهنوت والشماسية، أم في الكهنوت العام بالنسبة إلى الذين عاشوا مؤمنين علمانيين أو اعتنقوا الحالة الرهبانية أو تكرسوا لله في العالم على غرار الرهبان والراهبات.
طريقنا الى الله والخلاص الأبدي يمر عبرّ الكهنوت العام في أبعاده الثلاثة: العبادة الروحية(الخدمة الكهنوتية )، قبول إنجيل الخلاص ونشره (الخدمة النبوية)، والانتصار على الشر في خدمة الأخوة بالمحبة والعدالة (الخدمة الملوكية). ولقد تلألأ الأبرار في هذه الخدم، فبلغوا إلى حيث رأس جسدهم، لأنه حيث يكون الرأس هناك يصل الأعضاء.
أ- قوام الخدمة الكهنوتية أن يتحد المعمَّدون، بصفتهم اعضاء في جسد المسيح، في ذبيحة الفادي التي قدمّها على الصليب، ويواصل تقدمة ذاته في سرّ الافخارستيا. إنهم يتحدون بذبيحة المسيح من خلال تقدمة ذواتهم واعمالهم للرب، كما يناشدهم بولس الرسول: ” أناشدكم بمراحم الله أن تقيموا من أجسادكم ذبيحة حية، مقدسة، ومقبولة لدى الله بعبادة روحية”(رومية12/1). إن كل اعمالهم وصلواتهم ونشاطاتهم الرسولية وحياتهم الزوجية والعائلية وأشغالهم اليومية ومشقاتهم، إنما يضمونها قرابين روحية إلى تقدمة جسد الرب في الأفخارستيا، لتّرفع الى الآب بكل تقوى (العلمانيون المؤمنون بالمسيح،14). تدخل في إطار الخدمة الكهنوتية، وفقاً لإنجيل الدينونة، مساعدة الأخوة الصغار مثل:زيارة المريض وافتقاد المسجون.
ب- يشارك في الخدمة النبوية كل من ينفتح على إنجيل ملكوت الله، الذي أعلنه الرب يسوع، بشخصه وكلامه وأعماله، وكل من يقبل كلام الله بإيمان، ويعلنه بالكلمة وشهادة الأعمال، ويندد بالشر، ويجسّد جدة الإنجيل وفعاليته في حياته اليومية، العائلية والاجتماعية، ويصمد ثابتاً في الرجاء وسط مشقات الزمن الحاضر (المرجع نفسه). إنها حضارة الإنجيل المعلنة في كلام الرب اليوم، وهي حضارة تتحقق أولاً في قلب الإنسان وفي نوعية مسلكه الاجتماعي. بدافع منها ينطلق المسيحيون إلى خدمة الاخوة الصغار يقيناً منهم أن كلمة المسيح ” كل ما صنعتم لأحد اخوتي هؤلاء الصغار فلي قد صنعتموه”(متى25/40) ليست مجرد أمنية تقوية بل هي في حياتهم التزام بمساعدة الفقير ومواجهة كل أشكال الفقر المادي والثقافي والديني والاقتصادي (البابا يوحنا بولس الثاني: السنة المئة، 57). وهي في الإنجيل إطعام الجائعين إلى خبز وعلم وتربية وفرصة عمل ووسائل لتحيق ذواتهم، وإيواء الغرباء الباحثين عن مسكن ودور وانخراط في مجتمعهم الجديد.
ج- أما المشاركة في الخدمة الملوكية، التي دشّن بها السيد المسيح زمناً جديداً مرضياً للرب (لو4/19) ونشر ملكوت الله على الأرض، فتدعو المؤمنين إلى الصراع الروحي لتدمير سلطان الخطيئة فيهم، وإلى تكريس ذواتهم لخدمة المحبة والعدالة (العلمانيون المؤمنون بالمسيح14)، مثل سقي العطشان إلى ماء وعدالة وحقوق؛ وكسوة العريان بلباس مادي وبثوب الكرامة والصيت الحسن. فكلام الرب في إنجيل اليوم يعلن الحقيقة في شأن خيرات الأرض التي وكلها الله إلى البشر ليثمروها ويمتلكوها ويحسنوا التصرف بها، ويشركوا المعوزين فيها؛ ويعلن الحقيقة في شأن الفداء الذي أنقذ جميع الناس وآتاهم أن يكونوا مسؤولين بعضهم عن بعض، بحيث ان من نال من جودة الله وفرة من الخيرات الروحية والمادية، فقد نالها بهدف استعمالها لكماله الشخصي، وفي الوقت نفسه كخادم للعناية الإلهية في التخفيف من عوز الآخرين (السنة المئة 51، الشؤون الحديثة، 19).
***
ثانياً، الخطة الراعوية
إنجيل الدينونة في تذكار الأبرار والصديقين يؤكد ان طريق الإنسان إلى الله يمرّ عبر أخيه الإنسان. فالخلاص الشخصي يرتكز على عيش المحبة والعدالة تجاه الأخوة في حاجاتهم المادية والثقافية والروحية والمعنوية تحت عناوين الجوع والعطش والحرمان والغربة والمرض والأسْر. إنجيل اليوم دعوة من المسيح، الإنسان الكامل، للالتزام الشخصي في تأمين هذه الحاجات بعضنا لبعض، وتحرير الواحد الآخر من كل ما يعوّق نموه الشامل، ” لأن مجد الله الإنسان الحي”، على ما يقول القديس ايريناوس (رجاء جديد للبنان،100).
ترتكز الخطة الراعوية لهذا الأسبوع على النص 20 للمجمع البطريركي الماروني، بعنوان: “الكنيسة المارونية والشأن الاجتماعي”.
1) يتعمق الأفراد والجماعات: في الرعية والأسرة والدير والمدرسة والمنظمة الرسولية والمؤسسة، بمفهوم الإنسان ككائن اجتماعي. فالله لم يخلق الإنسان كائناً متوحداً، بل أراده كائناً اجتماعياً. لذلك ليست الحياة الاجتماعية أمراً غريباً عن الإنسان، فهو لا يستطيع ان ينمو ويحقق دعوته إلاّ من خلال العلاقة مع الآخرين ( مجمع عقيدة الإيمان: الحرية المسيحية والتحرير، 32؛ النص المجمعي20، فقرة 2). أي مبادرات يمكن اتخاذها لكي يعيش الأفراد والجماعات البعد الاجتماعي على كل من المستوى المادي والروحي، الثقافي والخلقي، في ضوء إنجيل اليوم؟
2) يوصي المجمع البطريركي الماروني في النص 20 (الفقرات 22-24) ببناء مجتمع قائم على مبادىء أساسية ثلاثة هي:
أ- التضامن، وهو ” العزم الثابت والدائم على العمل من أجل خير كل إنسان، وخير الجميع، لأننا جميعنا مسؤولون حقاً عن الجميع” (الاهتمام بالشأن الاجتماعي،38). يذكرّنا المجمع أن التضامن كان ممارساً عندنا في “العونة”. الجماعات، في الرعية والأسرة والمؤسسة والمنظمة، تفكّر معاً في رسم خطة عملية لعيش التضامن وممارسة “العونة”.
ب- العدالة، وهي فضيلة خلقية تؤمن لكل إنسان حقوقه الأساسية ليعيش بكرامة على المستوى المعيشي والثقافي والروحي والاجتماعي. المجمع البطريركي يدعو الأفراد والجماعات لتعزيز روح العدالة وممارستها تجاه الجميع وبخاصة الفقراء والمحتاجين. إنجيل اليوم يستحثنا على التفكير معاً في وسيلة تعزيز هذه الروح، وفي مبادرات عملية تجسّد العدالة التي تثمر السلام في رعايانا وعائلاتنا ومؤسساتنا ومجتمعنا. ” فالسلام ثمرة العدالة” ( اشعيا 32/37).
ج- ترقي الإنسان والمجتمع بالإنماء الشامل الذي يمكّن الشخص البشري من الحصول على حقوقه الاجتماعية الأساسية التي يعددها المجمع البطريركي الماروني، وهي الوجه الحقوقي للجائع والعطشان والعريان والمريض والغريب والسجين. هذه الحقوق هي: الحق في بناء عائلة، والحق في المسكن، والحق في العمل، والحق في الصحة والطبابة، والحق في التعليم والثقافة (النص20، الفقرات 28-37). الجماعات عندنا تحدد إمكانياتها والوسائل والمبادرات للعمل معاً على ترقي الإنسان، حتى بترقيه يترقى المجتمع.
**
صلاة
Discussion about this post