تذكار الأبرار والصديقين
الفضائل الإلهية والإنسانية
الأحد 20 كانون الثاني 2008
من إنجيل القديس متى 25/31-46
قال الرب يسوع: ” متى جاء ابن الإنسان في مجده، وجميع الملائكة معه، يجلس على عرش مجده. وتجمع لديه جميع الأمم، فيميّز بعضهم عن بعض، كما يميّز الراعي الخراف من الجداء. ويقيم الخراف عن يمينه والجداء عن شماله. حينئذ يقول الملك للذين عن يمينه: تعالوا يا مباركي أبي، رثوا الملكوت المعدّ لكم منذ إنشاء العالم؛ لأني جعت فأطعمتموني، وعطشت فسقيتموني، وكنت غريباً فآويتموني، وعرياناً فكسوتموني، ومريضاً فزرتموني، ومحبوساً فأتيتم إلي. حينئذ يجيبه الأبرار قائلين: يا رب، متى رأيناك جائعاً فأطعمناك، أو عطشاناً فسقيناك؟ ومتى رأيناك غريباً فآويناك، أو عرياناً فكسوناك؟ ومتى رأيناك مريضاً أو محبوساً فأتينا إليك؟ فيجيب الملك ويقول لهم: الحق أقول لكم: كل ما عملتموه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، فلي عملتموه! ثم يقول للذين عن شماله: إذهبوا عنّي يا ملاعين، إلى النار الأبدية المعدة لإبليس وجنوده؛ لأني جعت فما أطعمتموني، وعطشت فما سقيتموني، وكنت غريباً فما آويتموني، وعرياناً فما كسوتموني، ومريضاً ومحبوساً فما زرتموني! حينئذ يجيبه هؤلاء أيضاً قائلين: يا رب، متى رأيناك جائعاً أو عطشان أو غريباً أو مريضاً أو محبوساً وما خدمناك؟ حينئذ يجيبهم قائلاً: الحق أقول لكم: كل ما لم تعملوه لأحد هؤلاء الصغار، فلي لم تعملوه. ويذهب هؤلاء إلى العذاب الأبدي، والأبرار إلى الحياة الأبدية”.
الأبرار والصديقون هم الذين عاشوا ببطولة الفضائل الإلهية: الإيمان والرجاء والمحبة، والفضائل الإنسانية الرئيسة: الفطنة والعدالة والقوة والاعتدال، بقوة الروح القدس ومواهبه السبع التي تساند هذه الفضائل. ولذلك ينعمون بمشاهدة الله السعيدة ويؤلفون كنيسة السماء الممجدة. وهم الذين خدموا المسيح في إخوته الصغار الذين عانوا الجوع أوالعطش أوالحرمان أو الغربة أو السجن. فساعدوهم إما مادياً وإما معنوياً وإما روحياً. هؤلاء تستشفعهم كنيسة الأرض المجاهدة، وهم في كنيسة السماء الممجدة، من أجل أبنائها المسافرين على وجه الأرض، ومن أجل موتاها ابناء الكنيسة المتألمة في المطهر.
***
أولاً، شرح نص الإنجيل
1. المحبة الاجتماعية
المحبة هي أم الفضائل كلها وهي التي تحييها وتعطيها نكهة ومعنى، وتبقى من بعدها كلها (1كور13). نفهم من إنجيل اليوم أننا سندان على المحبة، لأننا أؤتمنا عليها بكوننا ” على صورة الله ومثاله”، ” فالله محبة” (1يو4/7). لكن المحبة، كما يقول يوحنا الرسول، ليست ” بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحق”. وهي تتجلى حسب كلام الرب اليوم في : إطعام الجائع، وسقي العطشان، وإيواء الغريب، وكسوة العريان، وتفقد المريض، وزيارة السجين. في هؤلاء الأخوة المعوزين ” الصغار” نرى وجه المسيح الذي تضامن معهم عضوياً بتجسده وآلامه والفداء: ” إن كل ما صنعتموه مع أحد إخوتي الصغار، فإلي ” صنعتموه” ( متى25/40).
المحبة الاجتماعية جزء لا يتجزأ من رسالة الكنيسة المثلثة الابعاد: إعلان سرّ المسيح ابن الله بالكرازة والتعليم؛ منح نعمة الخلاص المعطى لجميع الناس بتوزيع الأسرار؛ تحرير الإنسان من كل ما يعوق نموه البشري والروحي بأفعال المحبة والعدالة والتضامن، بحيث يتجلى مجد الله في الإنسان الحي (رجاء جديد للبنان، 100).
هذه المحبة تستوحي كلام الله، فتتبنى اهتمام الرب بالأيتام والفقراء ومحبة المسيح للأخوة ” الصغار” وتلتزم بتلبية حاجاتهم الروحية والمادية والمعنوية والثقافية.
وتشارك في إعادة روابط الأخوة المفقودة، على مثال السامري الصالح، وتحقق الأخوة الشاملة التي تجد نواتها في الكنيسة.
وتعمل بالشركة مع الكنيسة وباسمها، لأننا ” معاً للمحبة نشهد” ( رجاء جديد للبنان،101).
أما المبدأ الأساس للخدمة الاجتماعية فهو أن ” الله أعدّ الأرض وخيراتها لاستعمال جميع الناس والشعوب، ولوضعها بين أيدي الجميع” (الدستور المجمعي: فرح ورجاء،69).
2. الفضائل الإلهية
هي الفضائل التي تمكننا من أن نعيش الحياة الإلهية المسكوبة فينا، مذ نفخ فينا الله روحاً من روحه، وصورّنا في حشا أمهاتنا على مثاله. إنها فضائل تتصل مباشرة بعلاقتنا الحياتية مع الله.
الإيمان يولد من سماع كلام الله وتعليم الكنيسة، فيقود الإنسان المؤمن إلى معرفة الله والثقة به. فيدرك أنه على حق في إيمانه، كالمسافر الذي يعرف من خلال وجهة السير أنه يمشي في الاتجاه الحسن. بالإيمان لا نرى الله بل هو يكشف لنا صميم حبه، ويعطينا اليقين أننا على الطريق الصحيح. الإيمان يتحوّل في المؤمن إلى طاعة الله في ما يقول ويوحي.
الرجاء يولد من الإيمان ويشكل الثقة بالله وبجودته وقدرته، وبخاصة عند المحنة، حيث الله يبدو وكأنه بعيد، صامت، أصمّ، بل قاسٍ. فيربط إرادة الصمود بجودة الله وقدرته.
المحبة تولد من الرجاء كهبة من الروح القدس، الذي هو محبة الله، أي الحب العطاء. تعطي القدرة على تحويل الأنانية ورغبة التملك الى عطاء الذات، والانفتاح على خير الاخرين، ومحبتهم المجانية. نحب الله وجميع الناس الذين يحبهم كخالق. الفضائل الإلهية مصابيح تضيء دربنا إلى ” الأخوة الصغار”.
قال القديس اغسطينوس: ” من يؤمن يترجى، ومن يترجى يحب”.
3. الفضائل الإنسانية الرئيسة
هي فضائل كشفتها الفلسفة اليونانية، قبل الميلاد، وتقود الإنسان إلى نموه الكامل في حياة خلقية متزنة. لكن الحياة مع الله، على هدي الفضائل الإلهية ومواهب الروح القدس تعطي هذه الفضائل أبعاداً جديدة، جاعلة إياها خارقة الطبيعة بحيث تسمح للإنسان أن يذهب اكثر عمقاً ووضوحاً باتجاه الله و” الإخوة الصغار”. الفضائل الرئيسية أربع:
* الفطنة قدرة تمكننا من مطابقة الوسائل على الغايات. فلا نسعى إلى غايات صالحة بوسائل سيئة، ولا نتجه إلى الخير عن طريق الشر، مدركين أن الغاية لا تبرر الوسيلة. وبها نميّز أفضل الوسائل للعيش في مرضاة الله وتجنّب الإساءة والشر. بالفطنة نسمع نداء ” الإخوة الصغار”، ونجد الوسيلة لمساعدتهم.
* العدالة سعي إلى توطيد علاقات منصفة ومثمرة مع الناس، في المجتمع الذي نعيش فيه، بحيث ينال كل واحد حقه وكرامته. بالعدالة نكتشف حق الله بالعبادة البنوية التي منها حياتنا وخلاصنا. وبها ندرك ما علينا من واجبات تجاه الغير لينالوا حقوقهم. بالعدالة نرمم علاقات الإخوّة مع ” الإخوة الصغار” بإعطائهم ما هو حق لهم.
* القوة قدرة على تخطي العراقيل التي تتحدانا، وعلى القيام بمبادرات كبيرة، رغم المصاعب والعراقيل والإمكانيات المحددة. بالقوة نجد الوسائل لإخراج ” الإخوة الصغار” من محنتهم.
* الاعتدال فضيلة التوازن بين الكفاية والإفراط، بين مقتضيات الجسد وقيم الروح. يتحصن الاعتدال بروح التجرد والأمانة، وبالصوم والتقشف. هذه كلها تولّد الحرية الداخلية والسيطرة على الذات، إلى جانب مناعة روحية وخلقية. بالاعتدال نتقاسم خيورنا مع ” الأخوة الصغار”.
***
ثانياً، الكنيسة والفكر السياسي
هذا القسم من التنشئة المسيحية يود أن يساهم في تثقيف شعبنا بالمفهوم السليم للسياسة. موضوع اليوم: “الجماعة السياسية” في تعليم المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني ( الدستور الراعوي: فرح ورجاء، 73-74).
1. الجماعة السياسية
هي جماعة الذين يتولون باسم الشعب في الأوطان شؤون الحياة العامة، من خلال المؤسسات الدستورية. فيعملون على تعزيز حياة وطنية سليمة قوامها: الترقي الثقافي والاقتصادي والاجتماعي، وتمكين الأفراد والمجموعات في الوطن الواحد من ممارسة حقوقهم وواجباتهم على هذا المستوى، ومن تأدية دورهم الفاعل في الحياة العامة والإدارة، والاضطلاع بمسؤوليتهم في تنظيم الحياة السياسية الرامية إلى تأمين الخير العام وتعزيزه، وإلى إنماء الشخص البشري والمجتمع إنماءً شاملاً.
من شأن هذا الوعي لدى المواطنين لمفهوم الحياة السياسية أن يشجب كل أداء سياسي لا يعمل فعلياً وواقعياً للخير العام بل لمصالح أشخاص وفئات، ويقترف جرائم سياسية، ويميّز بين المواطنين وفئات المجتمع وفقاً لانتمائهم السياسي أو دينهم أو رأيهم، ويحدّ من الحريات العامة وفي طليعتهم حرية الرأي والتعبير، والحرية المدنية والدينية، ويهمل الأقليات ويحرمها من حقوقها.
فلا مجال لإنشاء حياة عامة وطنية سليمة قائمة على أساس إنساني حق، إلاّ بتعزيز الحسّ الداخلي للعدالة والإرادة الطيبة في خدمة الخير العام، وبتوطيد قناعات الشعب الأساسية حول طبيعة الجماعة السياسية وغايتها وحدود السلطة العامة.
2. الجماعة السياسية موجودة فقط من أجل الخير العام.
فهو مبرر وجودها، وينبوع حقها في الوجود، ذلك أن الأفراد والعائلات وسائر المجموعات لا تستطيع تأمين الخير المشترك من دون سلطة سياسية ينتدبونها لهذه الغاية. فبات من أولى واجبات هذه السلطة توفير الأوضاع الحياتية الاقتصادية والاجتماعية اللازمة لكي يتمكن الشعب الذي انتدبها أن يحقق ذاته في كل فئاته وأفراده وجماعاته. وفي طليعة هذه الأوضاع ثلاثة أساسية:
أ- استعمال الأموال العامة والخيرات المادية المتوفرة، وهو حق لكل مواطن من أجل معيشته بكرامة. وهذا الحق يسمو فوق أي قانون اقتصادي آخر، وحتى قانون الملكية. ثمة مطلب ملحّ بأن توضع كل الخيرات، التي خلقها الله لجميع البشر، في متناول الجميع، بانصاف ووفق مبادىء العدالة والمحبة. فكل إنسان بصفته كائناً حياً يتمتع بالعقل، يحظى من طبيعته بحق أساسي وهو أن يستعمل خيرات الأرض المادية. الحقيقة المسيحية الملزمة للجميع هي هذه: من يملك إنما يملك لاجل الجميع ( رسالة الطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرين: ام ومعلمة،42-43).
ب- تكافؤ فرص العمل الذي هو حق وواجب لكل إنسان اياً كان. من واجب السلطة السياسية تأمين العمل للجميع، وتقسيمه بالشكل الذي يقتضيه الخير العام وحلّ المشاكل والمعضلات المتعلقة به ( المرجع نفسه،44)، وإزالة البطالة والحدّ من الهجرة، ولاسيما هجرة الأدمغة والقوى الحيّة والفاعلة، برفع المستوى الاقتصادي، وتوفير التأمينات الاجتماعية اللازمة الناتجة عن العمل العادل والمنظم.
ج- تعزيز العائلة وتوفير مقتضياتها. إن ملكية الخيرات المادية، ومجالات استعمالها، وإيجاد فرص العمل، تساعد العائلة على ضمان وجودها ونموه. هذا يمكّن الوالدين من إتمام واجباتهم تجاه أولادهم، وهي واجبات كلّفهم بها الخالق، من أجل رفاهية العائلة الجسدية والنفسية والروحية ( المرجع نفسه،45).
واجبات السلطة السياسية هذه تشكل المعايير لاختيار من ينتدبهم المواطنون لتولّي السلطة، ولمحاسبتهم ومساءلتهم. ليس العمل السياسي للتقاتل والمزايدات الكلامية والاتهامات والتخوينات وبثّ أحكام مسبقة. بل للتنافس في البرامج الكفيلة بتأدية هذه الواجبات بشكل افضل وأشمل.
نأمل أن يرتقي شعبنا إلى هذا المفهوم للجماعة السياسية. أما اصحاب السلطة السياسية، ” فلأنهم خدام الله للشعب وللخير” ( روم13/4)، من واجبهم أن يمارسوا سلطتهم ضمن حدود النظام الأخلاقي الذي رتّبه الله، من دون أي إفراط، وأن يعملوا بروح المسؤولية في سبيل الخير العام ( فرح ورجاء،74). وبالمقابل يلتزم المواطنون ضميرياً بالطاعة، عملاً بوصية بولس الرسول ( روم 13/5).
****
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية تقبل النص المجمعي السادس: “البطريرك والأساقفة”، وتبيّن خمس مقومات أخَر لحياتهم الروحية.
1. السير على خطى الآباء (فقرة 44).
تتميز مسيرة الآباء الذين سبقوا البطريرك والاساقفة بالإيمان المتأصل في الصليب، ما يعني التوبة والغفران، وهما ركيزتا صلاتهم الليتورجية. هذه تنعش حبّ الله فيهم. حيث يوجد حب الله تتلاشى الخطايا ويُمحى الشر (القديس يوحنا فم الذهب). وهكذا يعمل رعاة الكنيسة على تعزيز سرّ التوبة والمصالحة لدى أبناء شعبهم، وعلى أن مرافقته بأفعال صوم وتقشف. إن دموع التوبة تشبه مياه المعمودية، غاسلة الخطايا.
2. الفقر الرهباني ( فقرة 45).
كان البطاركة والأساقفة يُختارون في البدايات من بين الرهبان، إذ لم يكن بعد اكليروس أبرشي منظم ومثقف. فطبع الروح الرهباني والعادات هويتهم وعيشهم ومسلكهم. ما يستدعي المحافظة عليها اليوم، مع روح التجرد والصلاة والصوم، والاهتمام بشؤون الفقراء والمعوزين.
3. الاتكال على السيدة مريم العذراء ( فقرة 46).
الكنيسة المارونية ذات طابع مريمي واضح في ليتورجيتها وكنائسها وأديارها وعبادة أبنائها، فمريم ” أم الله” هي سيدتهم ومحاميتهم وشفيعتهم ومثالهم. يتشّبه رعاة الكنيسة بإيمان مريم في مواجهة التحدّيات، وبمثالها في الدخول في مشروع الله الخلاصي. فهي سلطانة الرسل، والأساقفة خلفائهم.
4. الشوق إلى حيث الرب ( فقرة 47).
ميزة الكنيسة المارونية أيضاً النفحة النهيوية، التي هي عيش على الأرض وتطلع إلى السماء كمحطّ الحج الأخير. فيما يمارس البطريرك والاساقفة خدمتهم الراعوية، يربطون بين القربان والقيامة، بين المناولة والحياة الابدية: ” قد أكلت جسدك المقدس، لاتأكلني النار”. فيعملون على مساعدة شعبهم في عيش الرجاء المسيحي وسط المحن والشدائد، وعلى السهر وانتظار تجليات الله بصبر وثبات.
5. المحبة الأبوية ( فقرة48).
هي المحبة الراعوية على مثال الراعي الصالح، التي تغمر قلب البطريرك والأسقف في التعاطي مع شعبه والعيش مع الله. إلى كل واحد من رعاة الكنيسة موجّه سؤال يسوع لبطرس والرعاية: ” أتحبني؟ – ارعَ خرافي” (يو21/15). المحبة الراعوية تعني خدمة وبذلاً واهتماماً وانتباهاً وقرباً من المؤمنين، وتواضعاً وجهوزية لسماعهم وقبولهم وتأمين خدمتهم، وغيرة على خلاصهم، والعيش معهم بحرارة وعاطفة واندفاع.
***
صلاة
يا رب، زيّنا بفضائل الأبرار والصديقين الذين عاشوا المحبة العامودية لك والاجتماعية ” للإخوة الصغار”. بل ساعدنا بنعمتك لكي ننمّي فينا الفضائل الإلهية والإنسانية، لنتمكن من الشهادة لمحبتك في المجتمع. اجعل المحبة الاجتماعية شريعة كل مسؤول سياسي وكنسي، لأن سلطته هي منك لخدمة الخير العام. ولولا المحبة لا مجال لتحقيق هذه الخدمة. لك يا ينبوع كل محبة، أيها الآب والابن والروح القدس، كل مجد وشكر الآن وإلى الأبد، آمين.
Discussion about this post