عرس قانا الجليل
الصوم الكبير زمن التغيير
روم 14/14-23
يوحنا2/1-11
بهذا الأحد نفتتح زمن الصوم الكبير الذي يبدأ غداً الاثنين، المعروف “باثنين الرماد”، لأن فيه يرش الرماد على الرأس أو ترسم به إشارة الصليب على الجبين كعلامة للدعوة إلى التوبة، مع هذه الكلمات: ” تذكّر يا إنسان أنك من التراب وإلى التراب تعود” ( تك 3/19) وهي كلمات قالها الله لآدم بعد خطيئته.
إنه زمن التغيير في العلاقة مع الله والذات والأخوة بروح التوبة وتبديل المسلك والموقف. يقوم هذا الزمن على ثلاثة: الصلاة والصوم والصدقة.50
بالصلاة نعود إلى الله بالاستغفار وطلب الغفران. بالصوم نروّض النفس لتنتصر على ما فيها من أميال منحرفة. بالصدقة نقوم بأعمال محبة نحو الفقراء والمعوزين مادياً ومعنوياً وروحياً.
القراءات البيبلية تدعونا إلى هذا التغيير. في الرسالة إلى أهل رومية بولس الرسول يدعو إلى العناية بالأخوة متجنبّين الشكوك لكي لا نعطّل فيهم عمل الله. في إنجيل آية تحويل الماء إلى خمر، بتشفّع أم يسوع، علامة للتغيير الذي تجريه نعمة المسيح في قلب الإنسان وجوهره.
لكن الكل يقع تحت عنوان واحد: الحياة من أجل الآخرين.
أولاً، يوبيل القديس بولس الرسول وشرح الرسالة والإنجيل
1- رسالة القديس بولس الرسول الى أهل رومية: 14/14-23
وإِنِّي عَالِمٌ ووَاثِقٌ، في الرَّبِّ يَسُوع، أَنْ لا شَيءَ نَجِسٌ في ذَاتِهِ، إِلاَّ لِمَنْ يَحْسَبُهُ نَجِسًا، فَلَهُ يَكُونُ نَجِسًا. فإِنْ كُنْتَ مِنْ أَجْلِ الطَّعَامِ تُحْزِنُ أَخَاك، فَلا تَكُونُ سَالِكًا في الـمَحَبَّة. فَلا تُهْلِكْ بِطَعَامِكَ ذَاكَ الَّذي مَاتَ الـمَسِيحُ مِنْ أَجْلِهِ! إِذًا فَلا تَسْمَحُوا بَأَنْ يَصِيرَ الـخَيْرُ فيكُم سَبَبًا للتَّجْدِيف. فَلَيْسَ مَلَكُوتُ اللهِ أَكْلاً وَشُرْبًا، بَلْ بِرٌّ وَسَلامٌ وفَرَحٌ في الرُّوحِ القُدُس. فَمَنْ يَخْدُمُ الـمَسِيحَ هـكَذَا فهوَ مَرْضِيٌّ لَدَى الله، ومَقْبُولٌ لَدَى النَّاس. فَلْنَسْعَ إِذًا إِلَى مَا هوَ لِلسَّلام، ومَا هُوَ لِبُنْيَانِ بَعْضِنَا بَعْضًا. فَلا تَنْقُضْ عَمَلَ اللهِ مِنْ أَجْلِ الطَّعَام؛ لأَنَّ كُلَّ شَيءٍ طَاهِر، ولـكِنَّهُ يَنْقَلِبُ شَرًّا عَلى الإِنْسَانِ الَّذي يَأْكُلُ وَيَكُونُ سَبَبَ عَثْرَةٍ لأَخِيه. فَخَيْرٌ لَكَ أَنْ لا تَأْكُلَ لَحْمًا، ولا تَشْرَبَ خَمْرًا، ولا تَتَنَاوَلَ شَيئًا يَكُونُ سَبَبَ عَثْرَةٍ لأَخِيك. واحْتَفِظْ بِرأْيِكَ لِنَفْسِكَ أَمَامَ الله. وطُوبَى لِمَنْ لا يَدِينُ نَفْسَهُ في مَا يُقَرِّرُهُ! أَمَّا الـمُرْتَابُ في قَرَارِهِ، فَإِنْ أَكَلَ يُدَان، لأَنَّ عَمَلَهُ غَيْرُ صَادِرٍ عَنْ يَقِينٍ وإِيْمَان. وكُلُّ عَمَلٍ لا يَصْدُرُ عَنْ يَقِينٍ وإِيْمَانٍ فَهُوَ خَطِيئَة.
تُتلى هذه الرسالة في مطلع الصوم الكبير للدلالة إنه زمن الانتباه إلى الأخ الآخر وعدم تشكيكه في المسلك والموقف، حتى بتناول الطعام: ” لا تَهلك بطعامك ذاك الذي مات المسيح من أجله…فخير لك أن لا تأكل لحماً ولا تشرب خمراًَ، ولا تتناول شيئاً يكون سبب عثرة وشكّ لأخيك” (الآيتان 15 و21).
في كلام بولس دعوتان:
الأولى، إلى إشراك الآخر المعوز في ما عندك من خيرات. دعوة إلى تقاسم خيرات الأرض، هذه التي رتّبها الله لجميع الناس. ردد آباء الكنيسة القديسون، أمثال باسيليوس ويوحنا فم الذهب: ” إن أنت لم تطعم آخاك، قتلته”.
في رسالته بمناسبة يوم السلام العالمي لسنة 2009، وهي بعنوان: “مكافحة الفقر، بناء السلام”، كشف البابا بندكتوس السادس عشر أن الفقر يشمل ثلاثة: الفقر المادي إلى طعام وشراب وسكن ولباس؛ والفقر المعنوي إلى حقوق وكرامة وتعزية وعلاقات إنسانية وقيم روحية وخلقية؛ والفقر الثقافي إلى علم وتربية وحضارة وترقٍ للشخص البشري وللمجتمع. ” إطعام الآخر” يعني إخراجه من حالات فقره، “هذا الذي مات المسيح من أجله”.
الدعوة الثانية، إلى عدم تشكيك الآخر والتسبب بعثاره، المادي والمعنوي والروحي، بأنانيتك عندما تحتفظ بخيراتك لنفسك فقط، وتحرم غيرك منها. فكأنك تلطمه على خده عندما تتنعّم وحدك أمامه، وتتحداه بغناك، وتدفعه إلى الكفر وارتكاب الشر.
فالشكوك يمقتها الرب يسوع: ” من يشكك أحد اخوتي هؤلاء الصغار، خير له أن يُعلّق في عنقه حجر ويلقى في البحر” (متى18/6). ويدعو بولس الرسول في مكان آخر إلى تجنب الشكوك وحمل الآخر إلى الخطيئة بسبب الطعام (انظر 1كور8/10-13).
الشك موقف أو مسلك يقود الآخر إلى ارتكاب الشر بالفكر أو بالعمل أو بالإهمال. والشخص الذي يرتكب الشكوك يصبح مجرِّباً لأخيه: يهدم فضيلته وقيمه وقد يتسبب بموته الروحي، وبحمله إلى ارتكاب الإساءة نحو الله أو نحو الإنسان (انظر كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 2284).
قد يكون الموقف أو المسلك المشكك من قبل أشخاص عاديين، أو من قبل مسؤولين في الكنيسة والمجتمع والدولة. ما يجعل الشك أكثر خطورة وضرراً. المسؤول ملزم، بحكم طبيعته ووظيفته، بتعليم الغير وتربيته واستعمال الأموال العامة، من مال وقدرات وأملاك، مادية وثقافية، للخير العام الذي منه خير الجميع. فإن لم يفعل، يقول عنه الرب يسوع، ما قاله عن الكتبة والفريسيين “إنهم ذئاب بثوب حملان” ( متى7/15). هذا ما نقرأه أيضاً في كتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية (فقرة 2285).
الصوم الكبير هو ايضاً ” زمن السلوك بالمحبة”. وهي فضيلة تصلح كل شيء. بدونها، على ما سمعنا في رسالة بولس الرسول، يصبح كل شيء نجساً، فيما خلقه الله طاهراً (الآية 14)؛ وما هو خير يصبح شيئاً للتجديف (الآية 16) الذي ينقض عمل الله (الآية 16). أما بالمحبة فيُبنى ” ملكوت الله الذي ليس اكلاً وشرباً، بل استقامة وسلام وفرح بالروح القدس وبنيان بعضنا بعضاً (الآيتان 17 و19).
زمن الصوم الكبير يقدّم لنا الوسائل ” لنعيش وفقاً للإنسان الجديد المخلوق على صورة الله بالبر والحق، نابذين الشهوات الفاسدة والخدّاعة، وملتزمين التجدد الروحي في الأذهان” (افسس4/20-24).
2- عرس قانا الجليل: الحياة عيش من أجل الاخرين (يوحنا2/1-11)
افتتح الرب يسوع حياته العلنية ورسالته الخلاصية مشاركاً في عرس قانا الجليل، إلى جانب أمه والتلاميذ، نواة الكنيسة، فأعطى الزواج كرامته. بدأ الخلاص بتقديس الزواج، من بعد أن فقد قدسيته بخطيئة الزوجين الأولين آدم وحواء فأعاد إليه الحب المقدس، المرموز إليه بالخمرة الجديدة، خمرة الروح القدس الذي هو الحب المسكوب في قلب الزوجين. بآية تحويل الماء إلى خمر، استبق تحويل الخمر إلى دمه، عربون حبه اللامتناهي. ودعا الزوجين إلى الإيمان به، من خلال الآية ليدركا أن عمل الله متواصل في حياتهما.
المسيح معني بالإنسان وبخلاصه، وكانت حياته كلها من أجل كل إنسان. إنه لنا المثال والقدوة. ولولا انتباه مريم أمه وتشفعها ووساطتها، لما كانت الآية. تتميز حياة مريم أيضاً أنها من أجل الإنسان.
علّم الكردينال راتسنغر، الذي أصبح البابا بندكتوس السادس عشر، في كتابه ” مدخل إلى الإيمان المسيحي” أن ” الحياة عيش من أجل الآخرين”[1]. قال: “يقتضي الإيمان المسيحي التزام الفرد بأن يكون من أجل الجماعة، لا من أجل نفسه. تميّز الرب يسوع بمظهر الوجود من أجل الكثرة- من أجلكم” (مرقس 14/24). إن ذراعي المسيح الممدودتين على الصليب تعبير لاثنتين متلازمتين: العبادة والأخوّة. فامتداد اليدين بشكل صليب يعبّر عن حالة الصلاة والعبادة من جهة، وعن التضحية الكلية من أجل البشر الذين تعانقهم بروح الأخوّة، من جهة ثانية.
ويضيف: ” أنْ نكون مسيحيين يعني أساساً الانتقال من الكينونة من أجل الذات إلى الكينونة من أجل الآخرين… إن كلمة يسوع التي تحثنا على حمل الصليب وراءه تعبّر عن واجب الإنسان بترك عزلته ” أناه” وطمأنينته، وخروجه من ذاته ليتبع المصلوب ويضع صليباً على ” أناه”، ويحيا من أجل الآخرين”.
” التضحية هي التي تغذي حياة العالم”. هذا هو سرّ موت المسيح وقيامته المشبَّه بحبّة الحنطة التي تموت وتعطي السنبلة (يو12/24). هذا السّر متواصل بالتأوين، الآن وهنا، في سّر الأفخارستيا الذي هو ذبيحة ومناولة، تضحية تُبذل وحياة تُعطي. من سّر القربان نستمد ” حضارة العيش من أجل الآخرين”.
****
ثانياً، الوثيقة التعليمية ” كرامة الشخص البشري”
بمناسبة مرور عشرين سنة على الوثيقة التعليمية “هبة الحياة” [2]، أصدر مجمع عقيدة الإيمان وثيقة تعليمية جديدة بعنوان ” كرامة الشخص البشري”[3] حول بعض مسائل أخلاقيات الحياة. الداعي لهذا التعليم هو التقنيات الجديدة في طب الحياة، التي تدخل في إطار حياة الكائن البشري والعائلة، وتطرح تساؤلات جديدة، وبخاصة في قطاع البحث حول الأجّنة البشرية واستعمال الخلايا الأساسية لأهداف علاجية وسواها من مجالات الطب الاختباري. أسئلة جديدة تقتضي أجوبة مناسبة لها (المقدمة،1).
فيما الكنيسة تعرض مبادىء وتقويمات أخلاقية للأبحاث الطبية حول الحياة البشرية، فهي تستنير من العقل والإيمان، لتعطي نظرة شاملة عن الإنسان ودعوته. إنها ترى في العلم خدمة ثمينة لخير حياة كل كائن بشري وكرامته. وتتمنى أن تأتي الابحاث العلمية لترتقي بطب الحياة، بحيث يشهد المسيحيون لإيمانهم في هذا المجال، ويستفيد من الأبحاث من هم ضحايا الأمراض، ويتشدد بالرجاء المتألمون في أجسادهم وأرواحهم (المقدمة،3).
كرامة الشخص البشري (4-6).
لكل كائن بشري، منذ الحبل به حتى مماته، كرامة الشخص. هذا المبدأ الأساسي يعبّر عن ” نعم للحياة” كبير، ويجب أن يكون المحور لكل تفكير حول البحث في طب الحياة وأخلاقياتها (المقدمة،1).
ينعم الجنين البشري منذ البداية بكرامة الشخص. فلا يمكن اعتباره، منذ مراحل وجوده الأولى، مجرد كتلة خلايا. إن جسم الجنين ينمو تدريجياً وفقاً “لبرنامج” محدَّد تماماً، مع هدف خاص يظهر في ولادة كل طفل. هذا يقتضي احتراماً غير مشروط للكائن البشري في شموليته الجسدية والروحية، ومعاملته كشخص منذ الحبَل به، والإقرار بحقوقه وفي مقدمتها حقه في الحياة.
هذا التأكيد الأخلاقي المطابق للشرع الأدبي الطبيعي والمطبوع في قلب الإنسان، والموجود في كل الثقافات والحضارات، ينبغي له ان يكون في أساس كل نظام قانوني. فمنذ ظهور الحياة البشرية يوجد حضور شخصي نابع من فرادة هذا الكائن الذي يبدأ مراحل وجوده، فلا يخضع عبرها كلها، قبل الولادة وبعدها، لأي تغيير في الطبيعة أو لأي تدرّج في القيمة المعنوية. بل له صفة إنسانية وأخلاقية.
لذلك يتخذ تقدّم الأبحاث الطبية حول الحياة البشرية في مراحل وجودها الأولى، وحول هيكليات الإنسان ومسار إنجابه، وجهاً ايجابياً ووجهاً سلبياً. فهو إيجابي عندما يساعد على إصلاح الخلل في مراحل الحياة، وهو سلبي عندما يُستعمل لإلغاء كائنات بشرية، أو عندما يعتمد وسائل تنتهك كرامة الشخص أو تتنافى وخير الإنسان الشامل.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية تقبّل النص المجمعي الثالث عشر: الرعية والعمل الراعوي، في القسم المختص بدور الرعية ويحدده النص باربعة (الفقرات 21-29).
1- تثقيف الإيمان لدى المعمدين وفقاً لأعمارهم وحالاتهم، ليتمكنوا من الالتزام الواعي في حياتهم المسيحية كنسياً ورعوياً.
2- إحياء الممارسة الدينية من خلال:
أ- حثّ أبناء الرعية على قبول الأسرار بتهيئتهم لها، ولاسيما المعمودية والميرون والقربان والتوبة والزواج، وبإعداد الاحتفال بها وشرح رموزها، لتأتي المشاركة فيها واعية وخاشعة ومصلية. وكذلك بالنسبة إلى الرتب الليتورجية والزياحات والتساعيات. والكل مع ما يقتضي من تنظيم وترتيب واناشيد، توفر للشعب مشاركة فعلية ومثمرة.
ب- التوعية على أهمية الاحتفال بالقداس الإلهي، ووعي أقسامه الثلاثة: التعليم والذبيحة والمناولة، بحيث تتحقق في المؤمنين ثمار الفداء، وينطلقون باندفاع إلى حياة جديدة مستنيرة بالإيمان، ومشددة بنعمة الشفاء، ومتقوية بغذاء جسد الرب والحياة الإلهية.
ج- العظة في القداس وفي كل احتفال جماعي بالأسرار بحيث تكون إعلاناً لسرّ المسيح وتحقيقاً لكلمة الله ولتعليم الكنيسة في واقع الحياة اليومية وأحداثها.
3- إذكاء الروح التعاونية بالتنشئة على روح التضامن والتعاضد، وإيجاد الفرص لمبادرات يتقاسم فيها أبناء الرعية خيراتهم الزمنية والروحية والثفافية.
4– تنمية الروح الرسولية والرسالية من خلال تحديد أهداف رسولية وفقاً لحاجات الرعية وتطلعاتها؛ والعمل على التعاون والتكامل بين المنظمات والحركات الرسولية في الرعية؛ وتعزيز حوار الحياة مع أبناء الكنائس الأخرى بمبادرات مسكونية، ومع أتباع الديانات غير المسيحية على صعيد القيم الخلقية والروحية والاجتماعية؛ وتوصية ابناء الرعية بالشهادة للمسيح فيها وخارجاً عن حدودها.
***
صلاة
أيها الرب يسوع، لقد صمت أربعين يوماً وانتصرت على تجارب الشيطان، لكي تكفّر عن خطايا البشر وتعلمنا وتضمن لنا الانتصار على الشيطان وتجاربه. بارك صيامنا ليكون زمناً مقبولاً لله الآب، تكفيراً وتعويضاً عن الشرور الشخصية والعامة، وتغييراً في المسلك، وترميماً للعلاقة مع الله والذات والناس. اجعله، ربِ، زمن تقاسم خيرات الله المادية والروحية والثقافية مع الاخوة المعوزين. ولتكن حياتنا عيشاً من أجل الآخرين، ننتبه الى حاجاتهم، مثل مريم أمك في عرس قانا الجليل، ونلبّي هذه الحاجات بقوة محبتك. ألهم الجميع ولاسيما العاملين في حقل الطب احترام كرامة الحياة البشرية منذ اللحظة الأولى لتكوينها حتى نهايتها الطبيعية. لتكن رعايانا مدارس إيمان وصلاة وتضامن. فنرفع المجد والشكر للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد. آمين.
Discussion about this post