آية شفاء المنزوفة
التنشـئة المسيحيـة الأحد الثالث من زمن الصوم – آية شفاء المنزوفة الاحد 4 آذار 2012
(لوقا 40:8- 48)
الصوم الكبير، الذي سمّيناه “زمن التغيير” في رسالة الصوم لهذه السنة، يكشف من خلال إنجيل كل أحد وجهاً من وجوه التغيير الذي يحققه الرب يسوع. شفاء المنزوفة يرمز إلى إيقاف نزف القيم الروحية والإنسانية والأخلاقية عند الإنسان من جراء الخطيئة. إننا نحيي في هذا الأسبوع السابق للأحد عيد أبينا القديس يوحنا مارون، البطريرك الأول من بطاركتنا الموارنة السبعة والسبعين.
أولاً: شرح نص الإنجيل
من إنجيل القديس لوقا 40:8-48
وَلَمَّا عَادَ يَسُوع، ٱسْتَقْبَلَهُ الجَمْع، لأَنَّهُم جَميعَهُم كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ. وَإِذَا بِرَجُلٍ ٱسْمُهُ يَائِيرُس، وكَانَ رَئِيسَ المَجْمَع، جَاءَ فٱرْتَمَى عَلَى قَدَمَي يَسُوع، وَأَخَذَ يَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ، لأَنَّ لَهُ ٱبْنَةً وَحِيدَة، عُمْرُها نُحْوُ ٱثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَة، قَدْ أَشْرَفَتْ عَلَى المَوْت. وفِيمَا هُوَ ذَاهِب، كانَ الجُمُوعُ يَزْحَمُونَهُ. وَكانَتِ ٱمْرَأَةٌ مُصَابَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ ٱثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَة، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَشْفِيَهَا. دَنَتْ مِنْ وَرَاءِ يَسُوع، وَلَمَسَتْ طَرَفَ رِدَائِهِ، وَفَجأَةً وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. فَقَالَ يَسُوع: «مَنْ لَمَسَنِي؟». وَأَنْكَرَ الجَمِيع. فَقَالَ بُطْرُسُ وَمَنْ مَعَهُ: «يا مُعَلِّم، إِنَّ الجُمُوعَ يَزْحَمُونَكَ وَيُضَايِقُونَكَ»! فَقَالَ يَسُوع: «إِنَّ واحِدًا قَدْ لَمَسَنِي! فَإنِّي عَرَفْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي»! وَرَأَتِ ٱلمَرْأَةُ أَنَّ أَمْرَها لَمْ يَخْفَ عَلَيه، فَدَنَتْ مُرْتَعِدَةً وٱرْتَمَتْ عَلَى قَدَمَيه، وَأَعْلَنَتْ أَمَامَ الشَّعْبِ كُلِّهِ لِماذَا لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ شُفِيَتْ لِلْحَال. فَقَالَ لَهَا يَسُوع: «يا ٱبْنَتِي، إِيْمَانُكِ خَلَّصَكِ! إِذْهَبِي بِسَلام»!
1- المرأة المنزوفة تأتي من وراء يسوع وتلمس طرف ثوبه، إيماناً منها أنها إذا فعلت تشفى من نزف دمها الذي عجز الأطباء عن إيقافه على مدى اثنتي عشرة سنة. هذا العدد يعني كمال الشيء، وهنا مطلقية عدم الشفاء. بعد مسيرة الموت سيكون لها بدء الحياة. جاءت من ورائه، لأن الشريعة كانت تعتبرها نجسة وتنجِّس مَن تلمسه فيعوزه الخضوع لفرائض التطّهر. كانت تمنعها من الاقتراب من الناس، وكم بالأحرى من يسوع المرسل من الله. اعتبر سفر الأحبار أن مَن يلمسها يكون نجساً، وإن لمست هي شيئاً يكون نجساً(أح 15: 19-20). “لمست طرف ثوبه“: كان اليهود يضعون، من باب التقوى، في طرف ثوبهم خيطاً بنفسجياً يذكّرهم بالوصايا. ولذلك كان الهُدْبُ موضع إكرام(راجع عدد 15: 38-41). شعر يسوع بها فسأل: “مَن لمسني؟” بهذا السؤال أراد أن يجعل تلك التي كانت نكرة، بين جمهور الشعب المزدحم، معروفة من الجميع، إمتداحاً لإيمانها؛ وتلك التي كانت نجسة جعلها طاهرة، بعد أن شُفيت من نزفها. كانت لمستُها لمسةَ إيمان، ولذلك شعر بها يسوع، وتميَّزت عن لمسات الشعب المزدحم. النجسة لمست طرف ثوب القدوس فتنقّت وتقدَّست. هي لم تحمل النجاسة والموت ليسوع، بل هو بادلها الشفاء والحياة.
قال لها: “يا ابنتي إيمانك خلَّصك”. عاملها يسوع بكثير من الحنان إذ سمّاها “يا ابنتي”. لقد شفى جسدها وخلّص نفسها، بفضل إيمانها الكبير والواثق بيسوع. الإيمان نداء من قِبَل الرب، وجوابٌ من قبل الإنسان. حيث يتواجد يسوع يكون حضوره نداءً. فالإيمان ينبع من شخصه وتعليمه وآياته. يبقى على الإنسان، الذي يراه أو يسمعه، أن يؤمن به ويأتي إليه طالباً ملتمساً، والرب يُلبّي، وهو الذي قال: “كل ما تطلبونه بإيمان يكون لكم”(مر 11: 24)، وفي موضع آخر: “المؤمن يستطيع كل شيء”(مر 9: 23). وأخيراً أطلقها: “إذهبي بسلام”. لقد ملأها من سلامه أي من بركته وخلاصه. فالسلام هو ملء الحياة من المسيح الذي صار “هو سلامنا”(أف 2: 14).
2- باختصار علَّمنا يسوع ثلاثة في هذه الآية: إمتدح فعلة المرأة التي شاءتها سرّيّة وبعيدة عن الأنظار، إحتراماً ليسوع وللشريعة التي كانت تمنعها من التقرّب من الناس، ولم تشأ أن تُسبب أيَّ شكّ؛ صحَّح نظرتها سواء لجهة لمسها هدب ثوبه خفية، ولجهة اعتبار نفسها منبوذة منه بسبب مرضها؛ كشف إيمانها للجميع لكي يقتدوا به.
3- ترمز هذه المرأة إلى الطبيعة البشرية المعرَّضة للألم والموت المرموز إليهما بنزف الدم. إنَّ ما كان مستحيلاً على الأطباء الذين عالجوها مدة اثنتي عشرة سنة من دون جدوى، كان ممكناً امام قدرة يسوع(لو1: 37). بواسطة المسيح يتحرَّر الجنس البشري من آلامه وموته. يكفي أن “تلمسنا” كلمة انجيله عندما نسمعها ونقبلها في القلب، ونعمة أسراره التي نقبلها بإيمان ووعي. لمس طرف ثوبه ما زال متواصلاً عندما يلمس المؤمنون الأيقونات والصور والماء المبارك والصليب وذخائر القديسين والأواني والأمكنة المكرَّسة، ويلمسونها بإيمان، فيقبلون قدرة المسيح الشافية.
وترمز المرأة المنزوفة إلى نزف الايمان والأخلاق من جرّاء الجهل الديني للكتاب المقدّس وتعليم الكنيسة، ومن قلّة الممارسة الدينية للأسرار المقدّسة، ولاسيما منها سرّ التوبة وسر القربان وقدّاس الأحد، ومن قلّة الصلاة. ولذلك كثر الفساد وتفشَّت اللاأخلاقية، وانحطّت القيَم الروحية والإنسانية والاجتماعية.
4- دعا المجمع البطريركي الماروني المدرسة لتَوَلّي مسؤولياتها التربوية، ولتحتلّ موقعها الأساسي في التربية على القيم الروحية والإنسانية والاجتماعية، وعلى العقلانية واحترم كرامة الذات والآخر؛ وفي التربية على الواجب والالتزام مكان التراخي، وعلى بذل الذات مكان الأنانية، وعلى التآخي مكان العداوة، وعلى الحوار مكان التنابذ والعنف[1].
ويلفت المجمع إلى أنَّ المربِّين كثر، لكنَّ التربية مهمَلة أو مشوَّهة. فالعائلة تعاني من غياب القيَم والأخلاقية عن أذهان الكثيرين من الوالدين، والقناعة في ما خصَّ المأكل والملبس، وغياب الانضباط في الاحاديث، والاحترام في التعاطي بين أفراد الأسرة وسواهم من الناس.
والمسؤولون السياسون والحزبيون يهملون القيم الروحية والإنسانية والأخلاقية في التعاطي السياسي، والتطلّع إلى الغير المنافس، وفي توجيه المحازبين، كما يُهملون تربية الذات على روح الخدمة المقرونة بالمناقبية والكفاءة والفعالية، والتفاني الصادق في سبيل الخير العام، وتغليب الصالح العام على المصالح الشخصية والفئوية، واكتساب روح المصالحة والغفران.
ووسائل الإعلام وتقنياته، بالرغم ممّا توفّره من انفتاح وإطلالة على عالم اليوم، فإنها تبثُّ العديد من البرامج الهدّامة كالعنف والإباحية والبرامج اللاأخلاقية المبتذلة.
المحيط المباشر والمجتمع المنتظر منه أن يكون بيئة سليمة تنمو فيه أجيالنا بشكل سليم، فإنه مليء بالآفات التي تُهدِّد القيَم وتفسد الأخلاق.
يقول المجمع إنَّ المدرسة تواجه اليوم تحدّياً تربوياً كبيراً، وعليها أن تنتزع دورها التربوي من كلِّ الذين يُشوِّهون تربية أجيالنا الطالعة. فينبغي عليها أن تؤمِّن التربية الشاملة الهادفة إلى إنماء الشخصية في كلِّ أبعادها الروحية والأكاديمية والوطنية والاجتماعية:
على المستوى الروحي، تعمل المدرسة على تعزيز الإيمان بالله، والشهادة للقيم الدينية، والعيش بموجب الإنسان الجديد، والتمرّس على الغفران والمصالحة والمحبة والرحمة[2].
على المستوى الأكاديمي، تؤمِّن المدرسة لطلاّبها المعرفة العلمية العميقة والواسعة.
على المستوى الوطني، توفّر المدرسة تربية وطنية مبنية على أسس الحرية والتعاون والمساوة أمام القانون واعتماد مقياس الكفاءة واحترام حقوق الإنسان، ومعرفة التراث الوطني.
على المستوى الاجتماعي، تسعى المدرسة إلى تربية الشخص الانساني وفقاً لغايته الأخيرة في الوجود، ولخير الجماعة[3].
وفي كل ذلك على المدرسة أن تواجه إشكالية تأقلم التقليد مع الحداثة. فتعمل على إقامة التوازن بين ما تقدِّمه الحداثة من حرية فردية ذاتية، ومن قدرات معرفية واسعة وانفتاح على ثقافة أدبية وعلمية واجتماعية وحتى أخلاقية لا مرجعية دينية لها، وعلى مجتمع استهلاكي تحدِّد نشاطه حاجات الإنسان ورغباته، وبين ما يراه التقليد من التقيُّد بالدين والإيمان وفروضهما، ومن تأكيد العادات الاجتماعية والعائلية، ومن ضرورة احترام المواقف الأساسية التي بلورتها الحضارة الخاصّة بالجماعات البشرية[4].
ثانياً، البطريرك القديس يوحنا مارون
تحتفل الكنيسة المارونية في 2 أذار بعيد القديس يوحنا – مارون البطريرك الأول، الذي انتُخب بطريركاً على أنطاكيه سنة 685، من بعد أن خلا كرسي انطاكيه من بطريرك متّحد بروما. هو راهب من دير مار مارون – العاصي جنوب مدينة حلب، وانتُخب مطراناً على البترون. عُرفَ يوحنا – مارون بقداسة سيرته وعقيدته الكاثوليكية. زار روما ونال من البابا سرجيوس، الانطاكي الاصل، درع التثبيت. اضطر إلى مغادرة انطاكيه إلى دير مار مارون على العاصي ثم إلى سمر جبيل فإلى دير مار يوحنا مارون في كفرحي، عندما راح الامبرطور الروماني يوستنيانوس الثاني يضطهد البابا سرجيوس والبطريرك بسبب العقيدة الكاثوليكية القائلة بالطبيعتَين والمشيئتَين في المسيح.
في عهد يوحنا – مارون انفصل الموارنة عن الملكيين أي اتباع الملك، بعد حروبهم ضد البيزنطيين. أسّس هذا البطريرك العديد من الرعايا والكنائس، وسامَ أساقفة وكهنة، وحدَّد الرتب الليتورجية، وأنهى حياته بالقداسة حوالي سنة 707، ودُفن في دير مار يوحنا – مارون، كفرحي.
في الأساس كان عيد القديس مارون في 5 كانون الثاني الذي فيه كرَّس القديس يوحنا مارون كنيسة دير كفرحي، وعيد القديس يوحنا مارون في 9 شباط، تاريخ وفاته سنة 707. ثمَّ أصبح عيد الاثنين معاً في 9 شباط في أواخر القرن السابع عشر. وفي سنة 1787 نُقل عيد القديس يوحنا مارون إلى 2 اذار.
* * *
صلاة
أيها الرب يسوع، في زمن الصوم نلتمس نعمة الإيمان، الذي تميَّزتْ به المرأة المنزوفة، لكي نلتمس منك مثلها الشفاء من نزف القيم فينا من جرّاء خطايانا. اعضد المربّين ولاسيما في المدارس، لكي يوفّروا لأجيالنا الطالعة أحسن تربية علمية وروحية وأخلاقية، إلى جانب تربية اجتماعية ووطنية، تجعل منهم مؤمنين مخلصين ومواطنين أوفياء وأصحاب علم ومعرفة. بارك كنيستنا المارونية بشفاعة بطريركها الاول القديس يوحنا مارون، لكي يحافظ أبناؤها وبناتها على هويتهم الكاثوليكية وعلى رسالتهم في الشرق والعالم، فيرفعون دونما انقطاع المجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
* * *
[1] المجم البطريركي الماروني، النص المجمعي السادس عشر، الكنيسة المارونية والتربية، في التعليم العام والتقني، الفقرة 13.
Discussion about this post