شفاء النازفة
الخطيئة نزيف القيم الشخصية والاجتماعية
من انجيل القديس لوقا 8/40-48
قالَ لُوقَا البَشٍير: لَمَّا عَادَ يَسُوع، اسْتَقْبَلَهُ الـجَمْع، لأَنَّهُم جَميعَهُم كَانُوا يَنْتَظِرُونَهُ. وَإِذَا بِرَجُلٍ اسْمُهُ يَائِيرُس، وكَانَ رَئِيسَ الـمَجْمَع، جَاءَ فارْتَمَى عَلَى قَدَمَي يَسُوع، وَأَخَذَ يَتَوَسَّلُ إِلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ بَيْتَهُ،لأَنَّ لَهُ ابْنَةً وَحِيدَة، عُمْرُها نُحْوُ اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَة، قَدْ أَشْرَفَتْ عَلَى الـمَوْت. وفِيمَا هُوَ ذَاهِب، كانَ الـجُمُوعُ يَزْحَمُونَهُ.وَكانَتِ امْرَأَةٌ مُصَابَةٌ بِنَزْفِ دَمٍ مُنْذُ اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَة، وَلَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ أَنْ يَشْفِيَهَا.دَنَتْ مِنْ وَرَاءِ يَسُوع، وَلَمَسَتْ طَرَفَ رِدَائِهِ، وَفَجأَةً وَقَفَ نَزْفُ دَمِهَا. فَقَالَ يَسُوع: “مَنْ لَمَسَنِي؟”. وَأَنْكَرَ الـجَمِيع. فَقَالَ بُطْرُسُ وَمَنْ مَعَهُ: “يا مُعَلِّم، إِنَّ الـجُمُوعَ يَزْحَمُونَكَ وَيُضَايِقُونَكَ!”. َقَالَ يَسُوع: “إِنَّ واحِدًا قَدْ لَمَسَنِي! فَإنِّي عَرَفْتُ أَنَّ قُوَّةً قَدْ خَرَجَتْ مِنِّي!”.وَرَأَتِ الـمَرْأَةُ أَنَّ أَمْرَها لَمْ يَخْفَ عَلَيه، فَدَنَتْ مُرْتَعِدَةً وارْتَمَتْ عَلَى قَدَمَيه، وَأَعْلَنَتْ أَمَامَ الشَّعْبِ كُلِّهِ لِماذَا لَمَسَتْهُ، وَكَيْفَ شُفِيَتْ لِلْحَال. فَقَالَ لَهَا يَسُوع: “يا ابْنَتِي، إِيْمَانُكِ خَلَّصَكِ! إِذْهَبِي بِسَلام
آية شفاء النازفة تدل على حقيقتين: قدرة الإيمان الذي امتدحه يسوع في المرأة: ” إيمانك أحياكِ”، وقدرة يسوع الإله على الشفاء من نزيف دام اثنتي عشرة سنة: ” لمست طرف ردائه، فوقف حالاً نزف دمها”. في زمن الصوم ترمز الآية إلى خطيئة الإنسان لأنها إذا دامت كحالة تؤدي إلى نزيف في القيم الروحية والإنسانية والاجتماعية.
أولا، شرح نص الإنجيل
1- الخطيئة جرح ينزف
تفتح الخطيئة جرحين في الخاطىء: جرحاً في داخله، وجرحاً في علاقته مع القريب. فهي في الأساس معصية تخالف رسوم الله ووصاياه، وقطيعة معه، ورفض للخضوع له. فيختل توازنه وتنشأ في داخله تناقضات وصراعات، يصبح معها ممزقاً على مستواه الشخصي. أما على مستوى علاقاته بسائر الناس، فتتقطع شيئاً فشيئاً روابط الحقيقة والعدالة، الأخوة والصداقة، الخير
والجمال، الطاعة والاحترام، المحبة والتضامن، الخدمة والعطاء، المصالحة والسلام، الانصاف وحقوق الإنسان. وهذا نزيف أخطر من نزيف الدم.
نتائج الخطيئة تؤدي إلى اضعاف المناعة الروحية فإلى الموت الروحي. إنها تعطّل علاقة الخاطىء مع الله، أساس حياته، وتؤثر على عقله وإرادته فتظلم بصيرته. وفوق ذلك، تتعدى هذه النتائج الشخص المرتكب للخطيئة إلى الحياة الاجتماعية. يقول خادم الله البابا يوحنا بولس الثاني: “كل خطيئة، كبر أم صغر حجمها، كثر أم قلّ أذاها، ينعكس أثرها على الجماعة الكنسية كلها، وعلى العائلة البشرية جمعاء. وبهذا المعنى يمكن اعتبار الخطيئة الشخصية خطيئة اجتماعية (الارشاد الرسولي: المصالحة والتوبة، 16).
الخطيئة الشخصية، التي لا نندم عنها، تؤدي بنا إلى خطيئة اجتماعية: الإساءة إلى القريب مثلاً هي في الأساس إهانة لله، لأن الشريعة الأولى في الإنجيل أن تحب الله من كل عقلك وقلبك وإرادتك وقوتك، والثانية أن تحب قريبك كنفسك (متى22/39). تأخذ هذه الإساءة وجوهاً مختلفة في الحياة الاجتماعية، مثل: مخالفة العدل في العلاقات بين الأشخاص، وبين الشخص والمجتمع، وبين المجتمع والشخص؛ انتهاك حقوق الإنسان ولاسيما الحق في الحياة والكرامة والمعتقد والتعبير؛ التعدي على الخير العام ومقتضياته وحقوق المواطنين من خلال أفعال الحكام ورجال الاقتصاد والسياسة ومن خلال إهمالهم ما يترتب عليهم من واجبات في هذا المضمار لتحسين حالة المجتمع وتطويره، ومن خلال عمل المسؤولين والموظفين والعمال الذين يخلّون بواجب الحضور والعمل لتمكين المؤسسات من مواصلة تأمين خيرهم وخير عائلاتهم والمجتمع كله، والذين يربطون عملهم بالرشوة والسرقة وهدر المال العام؛ تعطيل حسن العلاقات بين مختلف الجماعات بانتهاك العدالة والحرية والسلام، وبقيام صراع الطبقات والتمادي بالخصومات والخلافات (المصالحة والتوبة،16).
هذا النزيف، الذي ينتشر انتشاراً واسعاً، ويتفشى في الإباحية والعنف، ويتزايد كواقع اجتماعي، إنما يستحث ضمير الجميع على وضع حدّ له، بجديّة وجرأة، وعلى تبديل الأوضاع الفاسدة والأحوال التي لا تطاق. زمن الصوم دعوة ووسيلة لهذا الالتزام.
2- الإيمان بحث عن المسيح الذي يشفي
كما المرأة النازفة بحثت عن يسوع، وفي قلبها اليقين التام والإيمان الثابت أنها إذا لمست، ولو طرف ردائه، تشفى، هكذا نحن اليوم مدعوون للبحث عن المسيح. نلتقيه في ” ينابيع التجدد التي أشار إليها الإرشاد الرسولي ” رجاء جديد للبنان” وهي:
كلام الله الذي يجعلنا لابسي الروح، كما كلمة الله صار لابساً الجسد، ويشكّل فينا قوة ومناعة، ومعيناً لا ينضب لحياتنا الروحية، ويمكننا من الاغتذاء من جسد الرب ودمه في الافخارستيا (فقرة39).
والتقليد الرسولي الذي يستحثنا على إعلان سرّ المسيح في حياتنا وأدائنا وثقافتنا وانظمتنا وحضارتنا، في كل زمان ومكان (فقرة40).
والليتورجيا والأسرار التي بواسطتها يتم فينا الخلاص بالنعمة الإلهية، ونشفى من نزيف خطايانا وشرورنا. وبواسطتها يصبح الإنسان سكنى الثالوث القدوس (فقرة42).
والصلاة الفردية والجماعية التي ترفعنا إلى الله، وتحررنا من الداخل، وتحقق فينا سرّ التأليه (فقرة43).
جدير بنا اليوم أن نعيد قراءة ما جاء في مقدمة الإرشاد الرسولي على لسان البابا يوحنا بولس الثاني، ونلتزم بما يدعو إليه: “عندما دعوت، في 12 حزيران 1991، سينودس الأساقفة إلى جمعية خاصة من أجل لبنان، كان وضع البلاد مأساوياً، ولبنان مزعزعاً تماماً في كل مقوماته، فدعوت المقيمين على هذه الأرض إلى المباشرة بمسيرة صلاة وتوبة وارتداد، تتيح لهم أن يتساءلوا أمام الرب عن أمانتهم للإنجيل وعن التزامهم الفعلي في اتباع المسيح. فكان الموضوع الذي قاد هذه المسيرة ” المسيح رجاؤنا، بروحه نتجدد، ومعاً للمحبة نشهد” ( فقرة 2).
***
ثانيا، السلام في العائلة والوطن
نواصل إظهار عناصر السلام في العائلة الطبيعية وفي العائلة الاجتماعية، محلياً ووطنياً ودولياً، كما كشفها قداسة البابا بندكتوس السادس عشر في رسالته ليوم السلام العالمي في أول كانون الثاني 2008، وهي بعنوان: العائلة البشرية جماعة السلام.
العنصر الثاني، بعد كلمة ” نعم”، هو البيت المشترك (الرسالة فقرة 7 و8).
1- لا تستطيع العائلة الطبيعية، القائمة على زواج رجل وامرأة، أن تعيش بسلام ما لم تمتلك بيتاً، فيه تُنسج العلاقات بين أفرادها، وفيه يتوفر الدفء والاستقرار والطمأنينة. من أولى حقوق الإنسان الأساسية الحق في المسكن.
هكذا العائلة الاجتماعية، الوطنية والدولية، تحتاج إلى بيت هو الأرض. لقد هيّأها الله الخالق لنا لنسكن فيها بشكل خلاّق ومسؤول. من دون أرض للوطن تنعم بالسلامة والسيادة وتُنتج للمواطنين ثماراً يعيشون منها، وتوفر لهم مناخاً سليماً وجواً آمناً، لا مجال للعيش بسلام. وعلى المستوى الدولي، إذا لم تكن خيرات الأرض متوفرة لجميع الناس، وقد رتّبها الله لهم جميعاً، لا تنعم الشعوب بالسلام، ويبقى العنف والإرهاب مستمرين، وكذلك النزاعات والحروب.
2- السلام يقتضي منا جميعاً، وبخاصة من المسؤولين السياسيين، أن نعتني بالبيئة ونحرسها ونحميها بحرية مسؤولة، وتطلّع دائم إلى خير الجميع وخير الشخص البشري الذي يحتل الأولوية في قيم الخلق. كل هذه القيم موضوعة في تصرفه وتصرف من سيأتي من بعده، بحيث لا يُحرم الفقراء من خيرات الأرض المعدة لهم بنوع خاص. يقتضي السلام تشديد روابط العهد بين الشخص البشري والأرض التي هي مرآة حب الله. منه أتينا إليها، ومنها نذهب إليه. ولقد خص المجمع البطريركي الماروني هذا الموضوع بنص هو الثالث والعشرون عنوانه: الكنيسة المارونية والأرض.
3- الأرض هي ” بيتنا المشترك”، تقتضي منا ومن المسؤولين السياسيين الخيار لإدارتها وحسن استثمارها عن طريق الحوار والتعاون المسؤول، لا عن طريق التفرّد والأحادية في الخيارات المصيرية. تُطرح على المستوى الدولي مسألة إدارة موارد الطاقة التي تختزنها الكرة الأرضية. من واجب الدول النامية والمتقدمة تكنولوجياً أن تعيد النظر في طريقة استهلاك هذه الموارد، بحيث تتجنّب الإفراط، وأن تحسن تثمير موارد الطاقة وطرق استخدامها، فلا يكون ذلك على حساب الدول الفقيرة. يقتضي السلام بعدم إرغام هذه الدول، بسبب النقص في بناها التحتية التكنولوجية على بيع مواردها بثمن منخفض، وبعدم إخضاع حريتها السياسية لنوع من ” الوصاية” أو لشروط مذلّة.
أين نحن والمسؤولون عندنا من حماية أرضنا وحسن إدارتها واستثمارها والدفاع عنها من أجل سلام اجتماعي ووطني عادل ودائم!
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تواصل الخطة الراعوية تقبل النص المجمعي السابع: الكهنة في الكنيسة المارونية، واتخاذ مبادرات عملية لتطبيقه. فتتناول الخدمة الكهنوتية ومقتضياتها في الزمن الحاضر (الفقرات14-20).
1- بسبب التحوّلات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والرعائية التي طرأت، حصل نزوح سكاني من الجبل إلى المدن فخلق أوضاعاً وأنماط حياة جديدة، وحصلت هجرة كبيرة إلى بلدان جديدة أدخلت المنتشرين في ثقافات وتقاليد وطرق عيش مختلفة. وكان تطور في الحياة الاجتماعية أدخلها في مجتمع متعدد الأديان والطوائف والثقافات والتيارات الفكرية. وكانت ظاهرة التطور الثقافي والعلمي والتكنولوجي، والعلمنة والعولمة ووسائل الإعلام والانترنيت والأقمار الاصطناعية، وتفشي الشيع والبدع. هذه كلها بدّلت واقع الرعية واقتضت تنشئة كهنوتية مستمرة واسعة، وخدمة راعوية بأساليب وأنماط ووسائل جديدة.
2- في خدمة الكرازة والتعليم باتت لأزمة تنشئة أوسع وأعمق في العلوم الإنسانية واللاهوتية والبيبلية. فضلاً عن الوعظ في الكنيسة، تقتضي الحاجة إلى أحياء سهرات إنجيلية في المنازل، وتعزيز الحركات والمنظمات الرسولية وإرشادها، وإنشاء مرشديات في المدارس والجامعات، والتعاون مع الرهبان والراهبات والعلمانيين في هذا المجال. ولا بد من الاستفادة من وسائل الاتصال الحديثة لنشر كلمة الإنجيل وتعليم الكنيسة. ومن المفيد جداً لهذه الغاية التعاون بين الكهنة، وتبادل الخبرات من خلال لقاءات وتجمعات، خارج الاجتماعات الكهنوتية الشهرية المنظمة في الأبرشية.
3- في خدمة التقديس، يحتاج الكهنة أولاً إلى إحياء حياتهم الروحية الشخصية من خلال رياضات ودورات. فيعمّقوا علاقتهم بيسوع المسيح الكاهن الأوحد والراعي الصالح، ويجددوا التزامهم بصلاة الساعات وعيش الأسرار ولاسيما سرّي التوبة والأفخارستيا. ومن الأهمية بمكان الاحتفال بالقداس اليومي في الرعية والممارسات التقوية. ولا بد من تنشيط اللجان الليتورجية في الرعايا، والجوقات ولجان راعوية العائلة والشبيبة، وتفعيل المشاركة في الحياة الليتورجية والأسرار. ومن الضرورة إنشاء لجان متخصصة لتحضير الاحتفال بالأسرار وبخاصة المعمودية والمناولة الأولى والزواج ومسحة المرضى ومناولتهم.
4- في خدمة التدبير أو الرعاية، تحتاج الرعايا إلى حضور الكهنة فيها بشكل أفعل. على هؤلاء إيجاد وسائل جديدة للتعرّف إلى أبناء رعاياهم، وسماعهم ومتابعتهم في مختلف ظروف حياتهم. وفي الواقع الاقتصادي والمعيشي الراهن والصعب، من واجب الكهنة تنظيم خدمة المحبة للفقراء والمهمّشين والمظلومين والعاطلين عن العمل. وأمام واقع الخلافات والنزاعات العائلية والاجتماعية، يبقى دور الكاهن أساسياً في تعزيز المصالحات وتقريب وجهات النظر وإحلال روح التفاهم والغفران والتعاون. ويقتضي واقع الانتشار والمسافات اعتماد وسائل الاتصال الحديثة للإحصاء والمتابعة ونقل أخبار الرعية وحياتها ورسالتها.
5- يدعو المجمع البطريركي الماروني، كما الإرشاد الرسولي “رجاء جديد للبنان” إلى إحياء خدمة الشمامسة الدائمين لمساعدة كهنة الرعايا في خدمتهم المثلثة.
***
صلاة
أيها الرب يسوع، لقد شئت أن تمتدح إيمان المرأة النازفة، لتؤكد لنا قدرة الإيمان على تحريك محبتك التي أخرجت قوة شفت نزيف المرأة. أعطنا أن نقترب من أسرارك الخلاصية بإيمان المرأة النازفة، لكي نشفى بقوة النعمة المتفجرة منها. ضع السلام في قلوبنا لكي نكون فاعلي سلام في عائلتنا الطبيعية والاجتماعية والوطنية. نشكرك على الكهنة وعلى الخدمة المثلثة التي أوكلتها إليهم. ضع في قلوبنا احترامهم، وحرّك إيماننا لنطلب خدمتهم، وقوّنا على موآزرتهم، نحن الذين أشركتنا أيضاً في رسالتك الكهنوتية المثلثة الأبعاد بحكم معموديتنا والميرون. لك المجد ولأبيك المبارك وروحك الحي القدوس، الآن وإلى الأبد. آمين.
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post