شفاء النازفة
الإيمان بالمسيح قوة الشفاء والتغيير
الأحد الثالث من الصوم
2 كورنتس 7/4-11
لوقا 8/40-48
تتواصل في زمن الصوم عملية تغيير الإنسان من الداخل بنعمة المسيح. في رسالة القديس بولس لهذا الأحد دعوة إلى الأسف عن الحالة الشاذة التي يصل إليها الإنسان بخطيئته وانحرافه عن الحق والخير والجمال، لأن الأسف يقود غلى التوبة والفرح الحقيقي. آية شفاء المرأة النازفة، في انجيل هذا الأحد علامة إن عدم الأسف على الخطايا وعدم التوبة عنها يتسببان بنزيف القيم الروحية والخلقية والإنسانية، مثل نزيف الدّم الذي يؤدي إلى الموت. المسيح وحده يشفي من هذا النزيف بقوة الإيمان به. والإيمان إياه يحمل على الندامة والمصالحة.
أولاً، يوبيل القديس بولس الرسول وشرح الرسالة والإنجيل
1- رسالة القديس بولس الثانية إلى أهل كورنتس: 2كور7/4-11
إِنَّ لي عَلَيْكُم دَالَّةً كَبِيرَة، ولي بِكُم فَخْرًا عَظِيمًا. وَلَقَدِ امْتَلأَتُ تَعْزِيَة، وأَنَا أَفِيضُ فَرَحًا في ضِيقِنَا كُلِّهِ. فإِنَّنَا لَمَّا وَصَلْنَا إِلى مَقْدَونِيَة، لَمْ يَكُنْ لِجَسَدِنَا شَيءٌ مِنَ الرَّاحَة، بَلْ كُنَّا مُتَضَايِقِينَ في كُلِّ شَيء، صِرَاعٌ مِنَ الـخَارِج، وخَوفٌ مِنَ الدَّاخِل! لـكِنَّ اللهَ الَّذي يُعَزِّي الـمُتَوَاضِعِينَ عَزَّانا بِمَجِيءِ طِيْطُس، لا بِمَجِيئِهِ فَحَسْب، بَلْ أَيْضًا بِالتَّعْزِيَةِ الَّتي تَعَزَّاهَا بِكُم. وقَدْ أَخْبَرَنَا بِاشْتِيَاقِكُم إِلَيْنَا، وحُزْنِكُم، وغَيْرَتِكُم عَلَيَّ، حَتَّى إِنِّي ازْدَدْتُ فَرَحًا. وإِذَا كُنْتُ قَدْ أَحْزَنْتُكُم بِرِسَالتِي فَلَسْتُ نَادِمًا عَلى ذـلِكَ، معَ أَنَّنِي كُنْتُ قَدْ نَدِمْتُ، لأَنِّي أَرَى أَنَّ تِلْكَ الرِّسَالَة، ولَوْ أَحْزَنَتْكُم إِلى حِين، قَدْ سَبَّبَتْ لي فَرَحًا كَثِيرًا، لا لأَنَّكُم حَزِنْتُم، بَلْ لأَنَّ حُزْنَكُم أَدَّى بِكُم إِلى التَّوبَة. فَقَدْ حَزِنْتُم حُزْنًا مُرْضِيًا لله، كَيْ لا تَخْسَرُوا بِسَبَبِنَا في أَيِّ شَيء؛ لأَنَّ الـحُزْنَ الـمُرْضِيَ للهِ يَصْنَعُ تَوْبَةً لِلخَلاصِ لا نَدَمَ عَلَيْهَا، أَمَّا حُزْنُ العَالَمِ فَيَصْنَعُ مَوْتًا. فَانْظُرُوا حُزْنَكُم هـذَا الـمُرْضِيَ للهِ كَم أَنْشَأَ فِيكُم مِنَ الاِجْتِهَاد، بَلْ مِنَ الاِعْتِذَار، بَلْ مِنَ الاِسْتِنْكَار، بَلْ مِنَ الـخَوْف، بَلْ مِنَ الشَّوْق، بَلْ مِنَ الغَيْرَة، بَلْ مِنَ الإِصْرَارِ عَلى العِقَاب! وقَدْ أَظْهَرْتُم أَنْفُسَكُم في كُلِّ ذـلِكَ أَنَّكُم أَبْرِيَاءُ مِنَ هـذَا الأَمْر.
يدعو بولس الرسول إلى الحزن على الخطيئة والشر، وهو حزن يُرضي الله، ويقود إلى التوبة والخلاص. إن هذا الحزن المرضي لله، ونسمّيه الأسف والندامة، يولّد الاجتهاد في إصلاح الحياة، والاعتذار عن الخطأ، والاستنكار للشر الذي صُنع، والخوف من الإساءة لله، والشوق إلى التعويض بفعل الخير، والغيرة على شؤون الله والكنيسة، وقبول عقاب الألم والفشل ومحن الحياة (الآية 11).
تحتل الندامة المكان الأول بين أفعال التائب. فهي الأسف من كل القلب، واحتقار الخطيئة المرتكبة، مع العزم على عدم الرجوع إليها[9]. لكن الندامة تفترض الإيمان بالمسيح والمحبة لله.
عندما التقى بولس الرسول الرب يسوع القائم من الموت على طريق دمشق، اعتبر كل ماضي حياته في إيجابياته وسلبياته كالنفاية امام معرفة المسيح يسوع والتغيير الذي في اعماق قلبه وفكره ورؤيته (انظر فيليبي3/8). ورأى أن ما كان يعتبره ربحاً هو في الواقع خسران تجاه الله، فوجّه وجوده كله شطر المسيح (انظر فيليبي3/7) الذي هو ” الكنز المخفي في الحقل” و”الجوهرة” التي من أجل شرائها يُباع كل شيء آخر ( انظر متى13/44-46).
إيمان بولس بالمسيح واتحاده العميق به جعلاه ” يفيض فرحاً في الضيق” وفي ما كان يواجه من ” صراع من الخارج، وخوف من الداخل” (الآية 4). هذا هو التبرير بالمسيح النابع من الإيمان، حسب تعليم القديس بولس الذي يحمل المؤمن على تسليم الذات للمسيح، وعلى الاتحاد والتشبّه به، وعلى الدخول في محبته. فالشركة مع المسيح والإيمان به يولّدان المحبة. والمحبة تُدخل المؤمن في شركة مع الله ومع الناس[10].
2- نزيف القيم والشفاء منه بالإيمان بالمسيح: لوقا8/40-48
الخطيئة التي لا نتوب عنها تولّد سلسلة من الخطايا الأخرى ونزيف القيم الروحية والإنسانية، الخلقية والاجتماعية. فيصبح المجتمع عائشاً في ” هيكلية خطيئة”[11]: أميال منحرفة تعتّم الضمير، عدم التمييز بين الخير والشر، الكبرياء، الشراهة، الطمع، الغضب، الكسل، القتل، الظلم، الاستبداد، إهمال الضعيف والمحتاج.
إيمان المرأة الذي قادها الى المسيح هو الذي شفاها من نزيف دمها: “تشجعي يا ابنتي، إيمانك أحياك، اذهبي بسلام” (لو8/48). سمعت المرأة بيسوع، فقصدته، والتمست منه الشفاء، بدون كلام، بل بحركة إيمانية، بالقلب والنية، وهذا هو الأساس في حياتنا مع المسيح، فوقف حالاً نزف دمها. كشف يسوع سرّها، لتكون نموذجاً لجميع الناس ومدى التاريخ، إن إيمانها هو الذي شفاها.
أين وكيف نستطيع أن نلمس طرف رداء المسيح لنشفى من نزيفنا الروحي والمعنوي، المادي والخلقي؟ نلمسه في كلام الإنجيل الذي يشفي من نزيف الحقيقة الظاهر في الكذب والازدواجية والضلال. ونلمسه في أسرار الخلاص، ولاسيما في سرّي التوبة والقربان، حيث نعطى الشفاء من الخطايا والأسقام، ونعمة الاغتذاء من جسد الرب ودمه للحياة الجديدة.
من الإنجيل والأسرار تخرج قوة إلهية شافية، مثل تلك التي “خرجت من يسوع” ( انظر لوقا 8/ 46). إنها فعل الروح القدس الذي يتمم فينا ثمار الفداء والخلاص، بقدر ما عندنا من ايمان غني بالرجاء والمحبة.
على هذا الأساس من الإيمان والرجاء والمحبة ومن أجل شفاء الإنسان، أسس الطوباوي الأب يعقوب حداد الكبوشي مؤسسة دير الصليب وما تفرّع عنها من مؤسسات نستطيع تسميتها ” بجمهورية الألم وواحة الشفاء”.
****
ثانياً، الوثيقة التعليمية ” كرامة الشخص البشري”[12]
قيمة الانسان، دعوته للمشاركة في محبة الله الثالوث
لكل كائن بشري، بمجرد وجوده، يقتضي الاحترام الكامل، مع اقصاء كل تمييز عنصري، على اي من المستويات: البيولوجي والنفسي والثقافي والصحي. ففي الانسان المخلوق على صورة الله، ينعكس، في كل مرحلة من وجوده، وجه ابن الله الوحيد، الذي كشف، بتجسده وبتضامنه مع كل الناس، كم ان الشخص البشري جدير بأن يُحب بحدّ ذاته، بمعزل عن اي اعتبار آخر، فهماً أو جمالاً أو صحة أو شباباً أو سلامة أو سواها. خلاصة القول إن الحياة البشرية خير دائم “لأنها في العالم اعتلان لله، وعلامة لحضوره، وأثر لمجده” (الفقرة 8)[13].
إن الأفعال التي يتم بها مجيء الكائن البشري إلى الوجود، والتي من خلالها يتم تبادل الذات بين الرجل والمرأة هو انعكاس للحب الالهي الثالوثي: الله، الذي هو محبة وحياة، كتب في الرجل وفي المرأة الدعوة إلى المشاركة الخاصة في سرّ شركته الشخصية، وفي عمله كخالق وأب. إن الزوجين، بحكم تكاملهما على مستوى الرجولة والأنوثة، يتشاركان في مشروع الحياة بكامله، في ما عندهم وفي ما هم عليه. هذه هي الشركة الزوجية النابعة من الطبيعة. إنها شركة تعاش في العائلة البشرية، أخذها المسيح الرب، ونقّاها ورفعها وكمّلها بنعمة سرّ الزواج. أما الروح القدس فيعطي الزوجين، عبر نعمة السّر، شركة الحب، على صورة تلك الوحدة التي تصنع من الكنيسة جسد المسيح الواحد (الفقرة 9).
إن الكنيسة، فيما تقدّر قيمة نتائج الأبحاث الطبية بشأن الإنسان وأصول حياته، لا تتدخل في القطاع الخاص بالعلوم الطبية بحدّ ذاتها. لكنها تدعو جميع المعنيين إلى المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية العائدة إلى عملهم. إن القيمة الأخلاقية للعلوم الطبّية المتعلقة بأخلاقيات الحياة تُعاش بمقدار ارتباطها باحترام كل كائن بشري غير المشروط، في كل مرحلة من حياته، وبحماية خصوصية الأفعال الشخصية التي تنقل الحياة. من صلاحيات السلطة التعليمية في الكنيسة تنشئة الضمائر، من خلال التعليم الأصيل للحقيقة التي هي المسيح، والتأكيد على سلطان المبادىء الأخلاقية المتحدرة من الطبيعة البشرية نفسها (الفقرة 10).
***
ثالثاً، الخطة الراعوية لتطبيق المجمع البطريركي الماروني
تختتم الخطة الراعوية عرض النص المجمعي الثالث عشر: الرعية والعمل الراعوي، في قسم المؤسسات الرعوية والمنظمات (الفقرات41-48).
ليست رسالة الكنيسة محصورة بالإكليروس، بل هي واجب على كل معمَّد وحق له، ويشارك فيها في رعيته، من خلال المجلس الرعائي والمجالس الأخرى والمنظمات الرسولية وسائر النشاطات، بشرط احترام الرابط الذي يربطهم بالسلطة الكنسية. يوصي المجمع البطريركي بما يلي:
1- إنشاء المجالس الرعائية في الرعايا بهدف إنعاش حياة الرعية وإفساح المجال أمام مختلف أبناء الرعية للقيام برسالتهم بروح من التعاون لتفعيل العمل الراعوي.
2- تفعيل عمل لجان الوقف في ما يختص بحاجات الكنيسة المبنى، ووسائل العبادة العمومية، والمعيشة اللائقة للكهنة وسائر الخدام الكنسيين، وخدمة المحبة للفقراء، إلى جانب المساهمة في العمل الراعوي.
3- تعزيز المنظمات والحركات الرسولية التي هي من ثمار الروح القدس، وخلايا حيّة لبناء الجماعة الرعوية، لكي تكون مكاناً لنمو الإيمان وشدّ اواصر الشركة الكنسية. يُعنى الكاهن بتأمين التنشئة الدينية والإنسانية لأعضائها لكي تنمو محبتهم للمسيح والكنيسة. كما يعنى بمرافقتهم روحياً لكي تكون هذه الجماعات مدرسة إيمان حقيقية، وتعمّق انتماءها الرعائي والأبرشي والكنسي.
4- الاهتمام براعوية العائلة بحيث تشكّل كنيسة بيتية، يكون الوالدان فيها ناقلي الإيمان ومعلمي الصلاة للأولاد، والمربيين لهم على محبة الفقراء واحترام الغير.
5- إنشاء مراكز رعوية في الأبرشية وفي الرعايا لاستيعاب العمل الرسولي ولاسيما تأمين التنشئة لمختلف فئات الرعية.
يتولى كاهن الرعية مسؤولية الإرشاد للجميع، مستعيناً بكهنة آخرين أو برهبان وراهبات أو بعلمانيين من داخل الرعية أو من خارجها. وعليه أن يرعى التوافق والتنسيق بين المجموعات المختلفة، فهو المسؤول الأول عن الوحدة وشركة المحبة في الرعية.
ويسهر كاهن الرعية على مسيرة الايمان في المجموعات المنظمة، بحيث يساعد اعضاءها، بالتعاون مع المسؤولين العلمانيين عنها، على تتميم عمل المسيح في الكنيسة، جسده، وعلى وعي المواهب وتثميرها لخير الجسد كله.
***
صلاة
أيها الرب يسوع، لقد أتيت تحمل إلينا غفران الله يشفينا من ضعفنا وينعشنا بالحياة الإلهية، ابعث في قلوبنا الأسف والندامة مع العزم على طلب الشفاء بإيمان المرأة النازفة. إن نزيف القيم الروحية والأخلاقية والإنسانية يتهددنا بالموت الروحي. اسمعنا صوتك باعث الرجاء: ” تشجعوا إيمانكم أحياكم، اذهبوا بسلام”. فلتلمسنا كلمة الإنجيل فتشفى منا العقول من الكذب والازدواجية، ونعمة سرّي التوبة والقربان فتشفى منا الإرادات والقلوب من كل ميل إلى الشر ومن الحقد والبغض. ألهم الجميع، بانوار الروح القدس، ليدرك كل إنسان كرامته ودعوته إلى المشاركة في محبة الله الثالوث. هدّىء كل يد تمتد لتنتهك حق أي كائن بشري في الحياة والوجود، في كل مراحل حياته، بدءاً من تكوينه في حشى أمه. ساعد رعاة الكنيسة، أساقفة وكهنة، على إنشاء الهيكليات الراعوية، لكي تُتاح للمؤمنين المشاركة الواعية والمسؤولة في حياة الكنيسة ورسالتها، انطلاقاً من الرعية. لك المجد والشكر والتسبيح، أيها الآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post