أحد شفاء المخلع مرقس
(2 /1-12)
في الآحَادِ الَّتِي سَبَقَت وَفِي الأَحَدِ الَّذِي َيَلِي، نَرَى يَسُوع يَشفِي الأَبرَص وَالمَنَزُوفَة وَالأَعمَى بِفِعلِ إِيمَانِهِم الشَّخصِي وَبِعَلاقَة شَخصِيَّة فَردِيَّة. فَهُم بِمَفرَدِهِم وَبمُبَادَرَة شَخصِيَّة وَمِن حَاجَتِهِم أَتَوا إِلَى يَسُوع وَنَالُوا الشِّفَاءَ وَعَادُوا إِلَى الحَيَاةِ الطَّبِيعِيَّة.
وَلكِن فِي هَذَا الأَحَد، أَحَدِ المُخَلَّع، نَرَى يَسُوعَ يَشفِي المُخَلَّعَ لَيسَ لإِيمَانِهِ هُوَ !! وَلَكِن لإِيمَانِ الأَشخَاصِ الأَربَعَةِ الَّذِينَ حَملُوهُ وَتَحَدُّوا الصُّعُوبات، فَنَبَشُوا السَّقفَ، فَمَا كَانَ مَن يَسُوعَ الَّذِي رَأَى إِيمَانَهُم أَن قَالَ لِلمُخَلَّعِ مَغفُورَةٌ لَكَ خَطَايَاكَ مُعِيداً لِهَذَا المُخَلَّع الصِّحَّةَ الرُّوحِيَّةَ وَبعدَهَا وَتَأْكِيداً عَلَى الشِّفَاءِ الرُّوحِي الَّذِي لا يُرَى، قَالَ لِلمُخَلَّع “قُمِ احمِل سَرِيرَكَ وَامْشِ” لِكَي يَرَى المُشَكِّكُونَ الصِّحَّةَ الرُّوحِيَّةَ بِصِحَّةِ الجَسَد (أَلَسنَا نَقُولُ العَقل السَّلِيمُ فِي الجِسمِ السَّلِيم) وَفِي هَذَا رَمزٌ وَدَعوَة.
فِي الرَّمزِ، يِرمُزُ الأَشخَاصُ الأَربَعَة إِلَى الكَنِيسَة الَّتِي تَحمِلُ المَرِيضَ (نَفساً وَجَسَداً) إِلَى يَسُوع لِيُعِيدَ إِلَيهِ الحَيَاةَ السَّوِيَّة.
فَهَل نَحمِلُ هَؤُلاء الأَشخَاص إِلَى يَسُوع أَقَلَّهُ فِي صَلاتِنَا أَم نَتَحَامل علَيهِم بِكَلامِنَا وَالتَّهَكُّمِ عَلَيهِم فَنَصِلَ بِهِم إِلَى اليَأْسِ وَفُقدَانِ الأَمَلِ بِالشِّفَاء !فَنَخسَرَهُم كَأَعضَاء أَحيَاء بَينَنا وَنَجعلهم أَعضَاءَ مَوتَى فِي عَالَمِ الأَحيَاء.!
إنّها دعوةٌ لأن نحمل بعضنا بعضاً كما فعل الأربعة مع المخلّع، فإن سُدَّت كلّ طرقات العالم ستبقى وسائل وطرق كثيرة للوصول إلى الربّ!
ونحن نرى كم هناك من الجموع التي تمنعنا من الدخول من الباب بحجج مختلفة، تارة متطلبات الحياة وطوراً ثقافات جديدة أو عدم وجود الوقت! أمورٌ كثيرة تفتّر الايمان وتقعده في الزاوية ونعيش واقفين مكاننا وسط الجموع التي تقطع الطريق كما حاولت الجموع منع أعمى أريحا من الصراخ وكنا رأيناها كيف حاولت منع النازفة من لمس طرف رداء المعلم.
“وبَعْدَ أَيَّامٍ عَادَ يَسُوعُ إِلى كَفَرْنَاحُوم. وسَمِعَ النَّاسُ أَنَّهُ في البَيْت. فتَجَمَّعَ عَدَدٌ كَبيرٌ مِنْهُم حَتَّى غَصَّ بِهِمِ المَكَان، ولَمْ يَبْقَ مَوْضِعٌ لأَحَدٍ ولا عِنْدَ البَاب. وكانَ يُخَاطِبُهُم بِكَلِمَةِ الله“.
يحدد القديس مرقس أن معجزة شفاء المفلوج قد تمت في مدينة كفرناحوم التي تعني “كفر التعزية أو النياح“.
فحينما نلتقي مع السيد المسيح – أينما وجدنا – ندخل معه إلى مدينته الروحية “كفرناحوم الروحية”، فيكون لنا الموضع للنياح الحقيقي والراحة الداخلية. وجوده يهب نياحًا حتى وإن أُلقينا مع الفتية في أتون النار، أو مع دانيال في جب الأسود، أو مع يونان في وسط المياه. هو واهب الراحة الحقيقية! لقاؤنا مع السيد يجعل من نفوسنا كفرناحوم، وحرماننا منه يجعلنا منها “كفر العذاب“.
“وللوقت اجتمع كثيرون حتى لم يسع ولا ما حول الباب، فكان يخاطبهم بالكلمة. وجاءوا إليه مقدمين مفلوجًا يحمله أربعة. إذ لم يقدروا أن يقتربوا إليه من أجل الجمع، كشفوا السقف حيث كان وبعدما نقبوه دلوا السرير الذي كان المفلوج مضجعًا عليه. فلما رأى يسوع إيمانهم قال للمفلوج: يا بني مغفورة لك خطاياك“ [2-5].
و من هذا النص نلاحظ الآتي :
أولاً: يقدم لنا الإنجيلي مرقس السيد المسيح صاحب السلطان الذي متى حلّ في بيت امتلأ من الجماهير وفاض، حتى لم يستطع ما حول الباب الخارجي أن يسع هذه الجماهير القادمة، لا لتتملقه أو تنتظر مكسبًا أدبيًا أو اجتماعيًا أو ماديًا، إنما تترقب الكلمة الخارجة من فيه لتشبع أعماقهم، وتشفي جراحاتهم الداخلية.
هذا هو المسيا خادم البشرية بكلمة محبته وخدمته غير المنقطعة! لعل هذا البيت أيضًا يشير إلى القلب الذي يدخله السيد ليملك على عرشه الداخلي، ويقيم مملكته فيه كوعده “ملكوت الله داخلكم” (لو 17: 21).
متى حلّ السيد في القلب اجتمعت كل طاقات الإنسان وقواه الروحية والنفسية والجسدية وأحاطت به كجماهير بلا حصر، فلا يعيش القلب بعد في فراغ ولا في تشتيت بل يتركز حول مخلصه بكل الإمكانيات.
عندئذ يرفع الإنجيليون الأربعة الفكر إلى السماوات كما إلى السطح ليتنقي وينضبط في الرب ويُحصر فيه ويكون أمامه.
والعجيب أن الذهن ينزل من السطح بالتواضع إلى حيث السيد المسيح الذي من أجلنا اتضع، فلا يكون نموه الروحي عله الكبرياء أو تشامخ أو تبرير ذاتي بل علة لقاء مع المسيح المتواضع
يقول القديس يوحنا سابا: [تسربل يا أخي بالتواضع كل حين فإنه يُلبس نفسك المسيح معطيه]
ثانيًا: إن كان الرجال قد قدموا بالإيمان المريض فشفاه السيد بإيمانهم فيرى البعض أن المفلوج نفسه أيضًا كان له إيمانه الذي عبر عنه بقبول حمله وتدليته من السقف وإن كان إيمانًا خافتًا وضعيفًا.
على أي الأحوال هؤلاء الرجال الأربعة يشيرون إلى الكنيسة كلها كهنة (3 رتب: الأسقفية، القسيسية، الشموسية) وشعبًا، إذ يلتزم أن يعمل الكل معًا بروح واحد في اتزانٍ، لكي يقدموا كل نفس مصابة بالفالج للسيد المسيح.
يتحدث القديس أمبروسيوس عن هؤلاء الرجال الأربعة، قائلاً: [ينبغي أن يكون لكل مريض شفعاء يطلبون عنه لينال الشفاء، فبشفاعتهم تتقوى عظام حياتنا اللينة ويستقيم اعوجاج أعمالنا بدواء كلمة الحياة. ليوجد إذن مرشدون للنفوس يترفقون بروح الإنسان التي قيدتها ضعفات الجسد.
فالكهنة يشكلون الروح، يعرفون كيف ترتفع وكيف تتواضع لتقف أمام يسوع، إذ “نظر إلى تواضع أمته” (لو 1: 48)، ينظر إلى المتواضعين .
ثالثًا: مدح القديس يوحنا الذهبي الفم هؤلاء الرجال، قائلاً: [وضعوا المريض أمام المسيح ولم ينطقوا بشيء بل تركوا كل شيء له]
ما أجمل أن تكون صلواتنا عرضًا أمام الله باشتياق حقيقي أن يتمم إرادته فينا
رابعًا: ما هو السقف المكشوف الذي قدم خلاله الرجال الأربعة المفلوج إلا البصيرة الروحية المفتوحة أو الإدراك الروحي.
حينما ينزع السقف الطيني أو المادي ينفتح القلب على الله وينعم بالمحبة معه
خامسًا: إذ رآه السيد المسيح قال له: “يا بني“.
يا للعجب، الكهنة يستنكفون من لمس المفلوج، والخالق يدعوه ابنا له! هذه هي أبوة الله للبشرية، يشتاق أن يرد كل نفس ساقطة بالبنوة إليه بشركة أمجاد أبيها السماوي!
سادسًا: كان يليق بالكتبة أن يفرحوا إذ رأوا المفلوج ينعم بغفران خطاياه وشفاء نفسه، لكنهم إذ كانوا متقوقعين حول ذواتهم رأوا في كلمات السيد تجديفًا وهروبًا من شفاء الجسد، فقالوا: “لماذا يتكلم هذا هكذا بتجاديف؟ من يقدر أن يغفر خطايا إلا الله وحده“؟ [7]. لم يأخذ السيد موقفًا مضادًا منهم، إنما في محبته اللانهائية أراد أيضًا أن يشفي نفوسهم مع نفس المفلوج فأوضح لهم أمرين:
الأول أنه عارف الأفكار، إذ قال لهم: “لماذا تفكرون بهذا في قلوبكم“؟ [8].
لعلهم يدركون أن الذي يفحص القلوب ويعرف الأفكار (إر 7: 10؛ مز 33: 15) قادر على غفران الخطايا.
أما الأمر الثاني فهو تصحيح مفاهيمهم، إذ حسبوا أن شفاء الجسد أصعب من شفاء النفس، لهذا أوضح لهم أنه يشفي الجسد المنظور لكي يتأكدوا من شفائه للنفس وغفرانه للخطايا وهو الأمر الأصعب.
على أي الأحوال يقول القديس يوحنا الذهبي الفم [لقد أربكهم بنفس كلماتهم، فكأنه يقول: لقد اعترفتم أن غفران الخطايا خاص بالله وحده، إذن لم تعد شخصيتي موضع تساؤل]
لقد أكد لهم “ولكن لكي تعلموا أن لابن الإنسان سلطان على الأرض أن يغفر الخطايا، قال للمفلوج: لك أقول قم، واحمل سريرك، واذهب إلى بيتك“ [10-11].
سابعًا: إن كان قد أمره بحمل سريره ليُعلن أن الشفاء حقيقة واقعة ملموسة، وليؤكد أنه الله الذي يغفر خطايانا، إنما لنقوم معه ونحيا بقوة قيامته، نمارس وصيته ونتمم إرادته بالعمل الإيجابي، حاملين سريرنا إلى بيتنا الذي تركناه أي كنيستنا أو فردوسنا المفقود .
يرى القديس أغسطينوس في هذا السرير رمزًا لضعفات الجسد. ففي خطايانا كنا محمولين بشهوات الجسد وضعفاته، مربوطة نفوسنا ومقيدة عن الحركة،
لكننا إذ نحمل قوة الحياة الجديدة تحمل النفس الجسد بكل أحاسيسه وطاقاته لتقوده هي بالروح لحساب مملكة الله وتدخل به إلى بيتها، أي الحياة المقدسة. هكذا لا يعود الجسد ثقلاً يحطم النفس، بل يكون معينًا يتجاوب معها تحت قيادة الروح القدس.
وكما يقول القديس يوحنا سابا يصير كنيسة مقدسة للرب: [من يذبح ذاته كل يوم بأتعاب المشيئة من أجل معرفة المسيح يكون جسده كنيسة محسوسة، والشعب الذي بداخلها هو مجمع الفضائل… العقل الذي استحق نظر الثالوث القدوس يكون كنيسة معقولة، والشعب الذي بداخلها هو جمع الملائكة]
ثامنًا: يقول الإنجيلي: فقام للوقت وحمل السرير وخرج قدام الكل حتى بُهت الجميع، ومجدوا الله، قائلين: ما رأينا مثل هذا قط“ [12].
شفاء المفلوج كان بركة للمريض نفسه الذي تمتع بغفران خطاياه كما بصحة جسده، وفرصة لكي يتحدث الرب مع الكتبة معلنًا لهم أنه المسيّا، وأيضًا للجماهير التي بهتت، قائلة: “ما رأينا مثل هذا قط”.
يرى الأب ثيؤفلاكتيوس أن هذه الجماهير تشير إلى أفكارنا التي تتمتع برؤية روحية سليمة ونقاوة عند غفران خطايانا، فتقف مبهورة أمام السيد المسيح واهب الشفاء.
حقًا أن النفس التي أصيبت بالفالج إذ تسمع صوت طبيبها السماوي وتنعم بعمله فيها وتتذوق رؤيته تبهر به ولا تطيق الحرمان منه.
وكما يقول القديس يوحنا سابا: [من رآه ثم احتمل ألا يراه؟ من سمع صوته واحتمل أن يعيش بدون سماع صوته؟ من استنشق رائحته ولم يجيء حالاً ليتنعم به؟
آمــــيـــــــــــن
Discussion about this post