الاحد الخامس من الصوم
شفاء المخلع
المسلك الجديد
من إنجيل القديس مرقس 2/1-12
عاد يسوع الى كفرناحوم. وسمع الناس أنه في البيت. فتجمع عددٌ كبيرٌ منهم حتى غصّ بهم المكان، ولم يبقَ موضعٌ لأحدٍ ولا عند الباب. وكان يخاطبهم بكلمة الله. فأتوه بمخلع يحمله اربعة رجال. وبسبب الجمع لم يستطيعوا الوصول به الى يسوع، فكشفوا السقف فوق يسوع، ونبشوه، ودلّوا الفراش الذي كان المخلع مطروحاً عليه. ورأى يسوع إيمانهم، فقال للمخلع: ” يا ابني، مغفورة لك خطاياك”. وكان بعض الكتبة جالسين هناك يفكرون في قلوبهم: “: لماذا يتكلم هذا الرجل هكذا؟ إنه يُجدف! من يقدر أن يغفر الخطايا إلاّ الله وحده؟”. وفي الحال عرف يسوع بروحه أنهم يفكرون هكذا في أنفسهم فقال لهم: ” لماذا تفكرون بهذا في قلوبكم؟ ما هو الأسهل؟ أن يقال للمخلع: مغفورة لك خطاياك؟ أم أن يقال: قمْ احمل فراشك وامشِِ؟ ولكي تعلموا أن لابن الانسان سلطاناً أن يغفر الخطايا على الارض”، قال للمخلع: ” لك أقول: قمْ إحمل فراشك، واذهب الى بيتك!”. فقام في الحال وحمل فراشه، وخرج أمام الجميع، حتى دهشوا كلهم ومجدوا الله قائلين: ” ما رأينا مثل هذا البتة!”.
***
سماع كلام الله ولّد الإيمان بقدرة المسيح الإلهية والمحبة تجاه المحتاج لدى الرجال الأربعة الذين حملوا المخلّع الى يسوع. وبرجاء وطيد ثقبوا السقف ودلّوا السرير الذي كان المخلع عليه. الإيمان والمحبة والرجاء، هذه ثمار سماع كلام الله، تقدمها اللوحة الإنجيلية التي تنطبق على الأفراد والجماعة، مخلعين كانوا أم حاملين المخلع، فيما المسيح هو هو أمس واليوم وإلى الأبد ( عبرانيين 13/8)، يغفر الخطايا ويشفي الأمراض ويقدس الأوجاع.
***
أولاً، المفهوم اللاهوتي لنص الإنجيل
1- الإيمان من السماع
يؤكد بولس الرسول أن الإيمان يولد من سماع كلام الله، وأن من يدعو باسم الله بإيمان يخلص ( روم10/13 و17). إن الذين سمعوا كلام الله من فم يسوع في كفرناحوم ابتهلوا بالأعمال والمواقف من أجل المخلع، فشفاه يسوع نفساً وجسداً: ” لما رأى يسوع إيمانهم، قال للمخلع: مغفورة لك خطاياك…قم احمل سريرك واذهب إلى بيتك” ( مر 2/5 و11).
بل الكنيسة تولد من سماع كلام الله: ” اجتمع الكثيرون وكان يلقي عليهم الكلمة” ( مر 2/2). هكذا نشأت الكنيسة الأولى: “كانت كلمة الله تعلن وتنمو، وعدد التلاميذ يتكاثر في أورشليم، وكان كثير من شعب اليهود ينصاع للإيمان” ( اعمال 6/7). لكن ما يميّز كلام الله عن كلام البشر هو أن بكلام الله، على ما يقول بطرس الرسول، ” تصير نفوسكم مقدسة بالخضوع للحق، وتمتلىء بالمحبة بدون محاباة، فتحبون بعضكم بعضاً بقلب طاهر كامل، كاناس ولدتم ثانية بكلمة الله الحية الباقية إلى الأبد” ( 1 بطر 1/21). وسيقول القديس اغسطينوس: ” كرز الرسل بكلام الحق وولّدوا الكنيسة”.
الإيمان يولّد الخلاص، كما أكّد الرب يسوع للمرأة النازفة: ” تشجعي يا ابنتي، إيمانك أحياك” (لو 8/48)، وللرسل الذين أرسلهم لينادوا بالإنجيل في الخليقة كلها: ” فمن يؤمن ويعتمد يخلص، ومن لا يؤمن يهلك” ( مر 16/16).
يقول آباء المجمع الفاتيكاني الثاني: ” بقوة الكلمة الخلاصية، يضىء الإيمان في قلب غير المؤمنين، ويغتذي في قلب المؤمنين، وتبدأ جماعة المؤمنين وتنمو.” في إعلان سرّ المسيح بالكرازة الصريحة، أو بتعليم عقيدة الكنيسة، أو بمواجهة معضلات الزمن في ضوء المسيح، أو بشهادة ومثل حياتهم الذي يحمل على تمجيد الله، لا يعلّم رعاة الكنيسة حكمتهم الخاصة، بل كلام الله؛ ويدعون الجميع بإلحاح إلى الارتداد والقداسة” ( القرار في خدمة الكهنة وحياتهم الكهنوتية، 4).
الصوم الكبير هو زمن سماع كلام الله والتوبة والتغيير الجذري في المسلك والأعمال. من واجب كل مؤمن أن يشارك في الرياضة الروحية التي تقام في رعيته. إنها وقفة مع الذات نصغي فيها إلى كلام الله، فنفحص الضمير ونكسر الرتابة وننقي الذاكرة بالمصالحة مع الله والأخوة والكنيسة، نستغفر ونغفر، ونقوم بتعبئة روحية للفكر والقلب والعلاقات. الرياضة خلوة مع الله نناجيه في الصلاة، ونستلهم إرادته على هدي الروح القدس، ونلتزم بطاعتها والعمل على تتميمها في حياتنا وعملنا، متبعين خطى الرب يسوع بالأمانة لدعوتنا ورسالتنا.
2. المخلع يمثل الأفراد والأسر والأوطان
عندما بادر يسوع المخلع بغفران خطاياه، أراد أن يبيّن أنه “مخلع” في نفسه وروحه بالخطيئة التي تخلّع العقل والإرادة والقلب: فالعقل المفطور على الحقيقة ينحرف إلى الكذب، والإرادة الموجّهة إلى الخير تنزع إلى الشر، والقلب موطن الحب والحنان يتسع للحقد والبغض. هذا النوع من الخلل الروحي في داخل الإنسان، على صورة المخلع في جسده، عبّر عنه بولس الرسول بالقول: ” الشريعة روحية أما جسدي فمبيع للخطيئة. ولست أدري ماذا أفعل. فالشيء الذي أريده لا أفعله، والشيء الذي لا أريد فإياه أفعل. إذا فعلت ما لا أريده، أكون شاهداً للشريعة إنها حسنة. إذاً، لست أنا من يفعل الآن هذا، بل هي الخطيئة الساكنة فيّ… فما أتعسني اإساناً، من ينقذني من جسد الموت هذا؟ اشكر الله بربنا يسوع المسيح، فأنا الآن بضميري عبد لشريعة الله، وأما بجسدي فعبد لشريعة الخطيئة” ( روم 7/14-17، و24-25).
هذا الشلل العميق في داخل الإنسان يؤدي إلى شلل في الأسرة والمجتمع والوطن، يصفه الدستور المجمعي ” الكنيسة في عالم اليوم” (عدد8). وترسم صورة مقلقة عنه الرسالة البابوية ” في الرحمة الالهية”: خطر وقوع نزاع مسلح يؤدي بقسم من الجنس البشري إلى ابادة ذاته لما تكدّس فيه اليوم من أسلحة نووية؛ خطر المدنيّة المطبوعة بطابع المادة والفارغة من المشاعر الإنسانية، بالرغم من التصريحات بشأن حقوق الإنسان، إذ يخشى أن تستعمل الأدوات الحربية من أجل مصالحها المادية؛ الخوف من إخضاع الأفراد والبيئات وسلبها الحرية الداخلية والقدرة على المجاهرة بالحقيقة والإيمان الداخلي والقوة على تلبية صوت الضمير الذي يرشد الانسان الى الطريق القويم؛ القلق مما يمارس من تعذيب تلجأ اليه السلطة عن قصد وتصميم، وتستخدمه وسيلة للسيطرة والضغط السياسي، ويقوم به، دونما عقاب، الزبائن والاتباع؛ الإحساس بما يتهدد الحياة بالقضاء قضاءً مبرماً على ما هو من صميم كيان الإنسان، أي كرامته وحقه في الحقيقة والحرية؛ الفوارق الكبيرة بين الناس: جماعات يسعدون ويتمتعون بفيض من الخيور ويشكون التخمة، ومئات الملايين يعيشون في فقر مدقع وشقاء وغالباً ما يموتون جوعاً؛ انظمة فاسدة سياسياً واقتصادياً تحول دون خروج العائلة البشرية من الحالة المخزية الظالمة ( البابا يوحنا بولس الثاني في الرحمة الالهية،11).
كذلك المجتمع والوطن اللبناني يعاني من شلل بسبب انتقاص السيادة والتدخلات الخارجية الرامية إلى ازكاء التفرقة، وتعطيل الحياة السياسية والديموقراطية، وتعاظم الديون، وتكاثر أعداد الفقراء، وتزايد قطاع البطالة، وركود الإنتاج الزراعي والصناعي وتغريقه في سوق السلع الخارجية.
وفيما يسعى الشعب اللبناني وشبابه وذوو الإرادة الحسنة المحليون والإقليميون والدوليون إلى التوسط لشفائه من هذا الشلل، مثل الرجال الأربعة الذين حملوا مخلع كفرناحوم إلى يسوع، نرى سيئّي النوايا وذوي المصالح الرخيصة والمأجورين والمستعبدين يحرّضون على التفرقة والانقسامات والتخوين بالكل. لكن ” الوطن لا يقوم ولا ينهض ولا يزدهر إلا بتضافر جهود جميع ابنائه. لكل دينه ومذهبه وطريقته ودعوته وعمله، ولكن الوطن مثل الله هو للجميع. فحذار الفتنة ومن يراهن عليها ليحول دون استعادة لبنان جميع مقوماته من سيادة واستقلال. ولنتقِ الله في هذا الوطن الفريد بين الاوطان” (البطريرك الكردينال مار نصرالله بطرس صفير).
3. المسيح طبيب النفوس والأجساد
شفى يسوع الرجل المخلع أولاً من شلل نفسه غافراً خطاياه، ثم شفاه من شلل جسده، فكان الشفاء الثاني البرهان المنظور للأول. وهكذا اجاب على تساؤل الكتبة والفريسيين: ” من يستطيع أن يغفر الخطايا غير الله وحده؟”، مبّيناً أن لابن الإنسان، وهو ابن الله، ” سلطاناً على الأرض ليغفر الخطايا” (مر2/7-10). يسوع هو طبيب النفوس والأجساد، ويحمل سلطاناً مزدوجاً على شفاء الأجساد من عللها والنفوس من خطاياها، وقد أعطاه لكهنة العهد الجديد، ليمارسوه باسمه في الكنيسة. فأسس لهذه الغاية سرّي الشفاء: التوبة ومسحة المرضى (التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، 1421 و1441).
في سرّ التوبة، ينال التائبون من رحمة الله مغفرة الإساءة التي ارتكبوها بخطاياهم تجاه الله والناس، وارتدوا عنها نادمين. وهم يتصالحون مع الكنيسة التي جرحوها بخطيئتهم، هي التي تعمل بالمحبة والصلاة والشهادة على توبتهم (الدستور العقائدي في الكنيسة،11).
مغفرة الخطايا تنبع من الله الثالوث: من الآب الغني بالرحمة الذي يحققها بموت الابن وقيامته وبعطية الروح القدس للحياة الجديدة، كما يقول الكاهن، في إحدى صيغ الحلّ من الخطايا، عندما يمارس السلطان الإلهي المعطى له:
” ليشملك الله الآب برحمته: فبموت ابنه وقيامته تصالح مع العالم، وأرسل روحه القدوس لمغفرة الخطايا؛ وليعطك بواسطة خدمة الكنيسة الغفران والسلام. وأنا بالسلطان المعطى لي، اغفر جميع خطاياك، باسم الآب والابن والروح القدس”.
في سرّ مسحة المرضى، عندما يصلي الكاهن ويمسح المريض بالميرون المقدس، تحمل الكنيسة كلها المرضى إلى الرب المتألم والممجّد، كما فعل الرجال الأربعة الذين حملوا مخلع كفرناحوم الى يسوع، لكي يخفف من آلامهم ويشركها بآلام الفداء لخير شعب الله ويخلصهم من أمراضهم (الدستور العقائدي في الكنيسة، 11).
في المرض يختبر الإنسان محدوديته ونهايته. قد يقوده المرض إلى الحسرة والانطواء على الذات، وغالباً إلى اليأس والتمرد على الله. لكنه يستطيع أيضاً أن يحمل الشخص إلى النضوج، ويساعده على تمييز ما ليس بجوهري في حياته، وعلى الالتفات إلى الجوهر. وغالباً ما ينتج المرض البحث عن الله والعودة إليه، مثل فرنسيس الاسيزي واغناطيوس دى لويولا وسواهما.
لكل هذه الأسباب ” افتقد الله شعبه” ( لو 7/16) بالمسيح الابن المتجسد، بعد أن أعلن نفسه قديماُ لشعبه: ” أنا الرب طبيبك” (خروج 13/20)، وعلى لسان اشعيا: ” سيأتي وقت يغفر الله لشعبه كل خطيئة ويشفي كل مرض” ( اشعيا 33/24).
أشرك الرب يسوع رسله، كهنة العهد الجديد، بخدمة الرحمة والشفاء، ” فأرسلهم يكرزون بالتوبة، ويطردون الشياطين ويمسحون المرضى بالزيت ويشفوهم” (مر6/12-13). وجدد إرسالهم بعد قيامته: ” باسمه يضعون أيديهم على المرضى فيشفون ( مر 16/17-18). وقد أعطى الروح القدس بعضاً موهبة الشفاء لتظهر قدرة نعمة المسيح القائم من الموت (تعليم الكنيسة الكاثوليكية، 1506-1508).
مارست الكنيسة الرسولية الأولى هذا السّر وفقاً لرتبة أعلنها يعقوب الرسول: ” هل بينكم مريض؟ فليدعُ كهنة الكنيسة، ليصلوا عليه، بعد أن يمسحوه بالزيت باسم الرب. فصلاة الإيمان تشفي المريض، والرب يقيمه. وإذا ارتكب خطايا، تُغفر له ( يعقوب 5/14- 15 ). لقد رأى التقليد في هذا الطقس واحداً من أسرار الكنيسة السبعة (تعليم الكنيسة الكاثوليكية،1510).
4- الشخص البشري قلب السلام
هذا عنوان رسالة البابا بندكتوس السادس عشر ليوم السلام العالمي ( اول كانون الثاني 2007). فقدان السلام يعني هذا الشلل الداخلي في عمق الإنسان الذي ينتج عنه الشلل الاجتماعي والوطني.
بالصوم والاماتات نحرر النفس والقلب من الانحرافات الشريرة ونجد السلام الداخلي، وبأعمال الرحمة والمحبة نرمّم روابط الأخوة مع الناس، ونشدد أواصر التضامن والتعاون، فنبني السلام الاجتماعي، القائم على العدالة وإنماء الشخص البشري والمجتمع إنماءً أصيلاً وشاملاً.
تكلّم قداسة البابا في الرسالة المذكورة عن ” إكولوجيا السلام” التي تشمل الإنسان وسائر الخلق. وقد رتّب الله كليهما، ووضع لهما هيكلية تُسمى النظام الطبيعي المميّز بالانسجام والتفاهم. هذه الاكولوجيا المزدوجة هي هبة من الله الخالق. ولذلك قيل: “سلام مع الله سلام مع الخليقة كلها”. ولما انتهك الإنسان هذا النظام الطبيعي بخطيئته وشره وظلمه، عاد الله فافتداه من هذه الفوضى.
الخلق والفداء هما اساس السلام، ويدخلاننا في “قراءة عميقة لمعنى وجودنا على الأرض. نحن لا نعيش في عالم من دون معنى، لا عقلاني irrationnel))، بل في عالم مبني أساساً على منطق خلقي، له قواعد للعمل البشري الفردي وللعلاقات المتبادلة بين الأشخاص، هي قواعد العدالة والتضامن والترابط، التي كتبتها الحكمة الإلهية في عمق ضمير الإنسان” (الرسالة البابوية ليوم السلام العالمي). السلام هو مجموعة الخيرات التي يوفّرها عمل الله للبشرية جمعاء، ولكل إنسان بالخلق والفداء. انه في آن هبة ومهمة: هبة نلتمسها بالصلاة ونقبلها بشخص المسيح، ” امير السلام”؛ ومهمة نقوم بها بشجاعة ومن دون ملل، وهي تصنع من كل شخص ذي إرادة حسنة “طريق سلام” ( عظة البابا في قداس يوم السلام العالمي).
السلام هو ذروة الخيرات الإلهية التي يغدقها الله ببركته: ” ليباركك الرب، ويحفظك، ويكشف لك وجهه ويمنحك السلام” ( سفر العدد 6/24-26).
***
ثانيا، زمن الصوم ومراحل درب الصليب
في آية شفاء المخلع تظهر انطلاقة للإنسان في مسيرة جديدة حسية وروحية، إذ شفاه يسوع نفساً وجسداً. لكن هو الرب نفسه يسير مع الإنسان على دروب الحياة، كاهناً وملكاً.
” درب الصليب” طريق كهنوتي وملوكي. من يسير في هذا الدرب لفداء البشر هو يسوع الذي مسحه روح الرب كاهناً وملكاً. لكنه لا يحمل على درب الجلجلة عصاً ولا ثياباً كهنوتية. غير أنه يعرف أن ملكوته يبدأ بالشكل الوحيد الممكن: إنه يملك بقوة الحب. الآن يبدأ كهنوته، حملأ وديعاً بريئاً، يقدّم ذاته ذبيحة تكفير عن خطيئة العالم (المكرم الكاردينال Newman).
في المرحلة العاشرة، يسوع يُعرى من ثيابه
“وجاؤوا إلى المكان الذي يسمى جلجلة، وتفسيره: جمجمة، وأعطوه ليشرب خمراً ممزوجة مراً، فذاق ولم يرد أن يشرب. ولما صلبوه اقتسموا بالقرعة ثيابه، ليتم ما قيل بالنبي: ” ثيابي اقتسموا بينهم، وعلى لباسي اقترعوا”. وجلسوا هناك يحرسونه” (متى27/33-36).
يسوع، الملك الأبدي للأزمنة الجديدة، ينزع عنه الثوب الذي اقتضته شريعة الطبيعة، بعد الخطيئة الأصلية، لتستر عري الإنسان وتخرجه من خجله. نزعه عنه ليلبس ثوب الكهنوت: ” المحبة حتى النهاية” ( يو13/1)، ” الحب الذي يستر الخطايا” ( 1بطرس4/8).
ينزع عنه الثوب المادي ليُلبس الإنسان ثوب النعمة والبرارة، بثمرة موته على الصليب وقيامته المجيدة. يفتقر حتى من الثوب المادي الضروري ليغني الإنسان بالنعم الإلهية، عندما انطلق من بيته في الناصرة، لم يكن يملك شيئاً، فأعلن بداية ملكوت الله، والدخول إليه بالتوبة والإيمان بالإنجيل ( مر1/15).
هذا هو نهج الكهنوت والملوكية: تواضع وتفانٍ، فقر من الدنيا واغتناء بالله، حبٌ يبذل بدون حساب.
***
ثالثاً، الخطة الراعوية
تلتقي الهيكليات الرعوية: مجالس رعائية، منظمات رسولية، لجان، جماعات عيلية، أندية، جماعات تربوية وديرية، لمواصلة تقبّل النص الثالث من المجمع البطريركي الماروني وعنوانه:حضور الكنيسة المارونية في النطاق البطريركي، وتحديداً في القسم المختص بالعلاقات المسيحية-الاسلامية في العالم العربي بنواحيها السلبية من جهة والمقتضيات الضرورية لتوطيدها (الفقرات 40-46).
1- يعاني الشرق العربي اليوم مخاضاً حضارياً عميقاً، كما يبدو في الظاهرات البارزة:
أ- اليقظة الدينية: تطغى على وجهها الإيجابي مظاهرُ التشدد والتعصب والعدوانية المقلقة. الأصولية البغيضة تشوّه الأصالة المطلوبة. التديّن فضيلة، لكن التعصّب يشوّه الدين والإنسان معاً (الفقرة 41).
ب- رفض التنوّع الديني والثقافي والاتني واللغوي، وتراجع في الانفتاح والتأخي بين المختلفين ديناً واتنية وثقافة، وتقوقع وتحجر واعتدائية، وخلط بين الإيمان والتعصّب الديني، وهما نقيضان: الأول إيجابي ومطلوب، والثاني سلبي وبغيض (الفقرة 42).
ج- يرافق المدَّ الأصولي على المستوى السياسي والاجتماعي، غياب الحريات السياسية، وانتهاك حقوق الإنسان المدنية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وقضايا سياسية مزمنة ومترابطة تؤثر على المنطقة العربية كلها وهي: القضية الفلسطينية والمأساة العراقية والمسألة اللبنانية. فلا بدّ من التذكير أن الإنسان هو المقياس والقيمة الأساسية للنظم السياسية والاجتماعية (الفقرة 43).
2. أما المقتضيات لتصحيح العلاقات وتوطيدها فهي:
أ- الحوار الدائم مع أهل الدين الاسلامي تعتبره الكنيسة المارونية والكنائس الانطاكية واجباً للدفاع عن حقوق الأفراد والجماعات التي هي الطرف الآخر لحقوق الله، والتي تشكل الأساس للسلام.
ب- حوار الأعمال المعروف بمجال التعاون بين الأديان من أجل إنماء الإنسان وتحريره. وهو حوار إلى جانب أشكال ثلاثة أخرى هي: حوار الحياة، وحوار المبادلات اللاهوتية، وحوار الاختبار الروحي. لقد توسع في هذه الأشكال من الحوار المجلس الحبري للحوار بين الأديان ومجمع تبشير الشعوب في وثيقتهما المشتركة: حوار وبشارة (1991)، عدد 42 (الفقرة 45).
ج- حضارة الوجه، وهو تعبير لبطاركة الشرق الكاثوليك، يعني حضارة التلاقي الودّي والتحاور الحقيقي والتخاطب المباشر. تقتضي هذه الحضارة استجلاء مفاهيم الكرامة الإنسانية والحرية والمساواة، ووضعها موضع التطبيق بما يتفق مع الشرعة الدولية المعروفة بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 10 كانون الاول 1948 عن منظمة الامم المتحدة (الفقرة 46).
***
صلاة
حرّرنا أيها الرب يسوع من مغريات الأرض، لنسعى إلى اكتساب القيم الروحية والثقافية والاجتماعية، تعزيزاً لها. حقق فينا حضارة الوجه التي تعكس جمال وجهك، وجه الحرية والعدالة، المحبة والسلام. أهّلنا لاحتمال كل شيء ينال من كرامتنا، لكي تسلم القيم ويتعزز الخير العام. أعطنا أن نرتضي العار في هذه الدنيا، راجين ألاّ يسود وجهنا الخجلُ في اليوم الأخير. لك المجد إلى الأبد آمين.
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post