شفاء أعمى أريحا
شرح النّص:
إن رواية الشفاء هذه يضعها مرقس كخاتمة لقسم من الإنجيل، وهي تحضّر لمرحلة بغاية الأهميّة. يسوع ينتقل من الجليل الى أورشليم عابراً أريحا. يكوّن هذا النّص خاتمة الجزء الأوّل من القسم الأخير في إنجيل مرقس (8، 27 – 16، 8) الّذي يروي وجود الرّب في أورشليم.
يمكننا ان نعطي القسم الممتد من 8، 27- 10، 25 عنوان “السير نحو أورشليم”، يبتدئ بسؤال حول هويّة يسوع. بعد رسالة يسوع الجليليّة، يذهب مع التلاميذ نحو الشمال، الى قيصريّة، لتبدأ المسيرة من النقطة الشمالية الأقصى نحو المدينة المقدّسة، نحو أورشليم، لتتميم الفصح الحقيقيّ، بموت يسوع وقيامته.
يُختَتَم هذا الجزء الأوّل من القسم الأخير برواية شفاء الأعمى في أريحا. هي المعجزة الأخيرة التي سوف يقوم بها يسوع قبل دخوله الى أورشليم.
لقد حافظ مرقس حتى الآن على السرّ المسيحانيّ، فيسوع يطلب دوماً من الّذين شفاهم ومن التلاميذ عدم إعلان هويّته، لا خوفاً من اليهود إنّما لأن الشعب لم يكن بعد مستعدّاً لفهم حقيقة هويّته ودوره، ولهذا صرخوا له أثناء دخوله أورشليم، ظنّاً منهم أنّه المخلّص العسكري والقائد اليهوديّ المزمع رفع النير اليونانيّ عنهم.
إن السرّ المسيحاني لا يعتلن نهائيّاً إلاّ فوق الصليب وعلى لسان قائد المئة الرومانيّ: “لقد كان هذا حقّاً إبن الله” (15، 39). إنّما هذا الإعتلان النهائيّ يمهّد له مرقس رويداً رويداً بطريقة تصاعديّة. فالشعب يقدر أن يفهم بواسطة الله نفسه الّذي يتدخّل ليفتح أعينهم، وهذا الحدث هنا، رواية شفاء الأعمى، الى جانب حقيقته التاريخيّة، ينطوي على بعدٍ لاهوتيٍّ مهمّ: لقد فتح الله عيني الأعمى كما فتح أعين الشعب ليصبحوا قادرين على فهم هويّة يسوع المسيح.
الشخصيات في هذا النص:
برتيماوس (إبن طيما): يوضِح لنا النصّ الانجيلي أن برتيماوس كان متسوّلاً أعمى “جالس على جانب الطريق” يستعطي خارج أريحا، يطلب الحسنة من جمهور الحجاج الذاهبين إلى مدينة أورشليم لِقضاء عيد الفصح.
في كُلِّ الشِفاءات لم يُذْكَر إسمُ الشَخصِ المريض: النازِفة، ألابرص، المُخَلَّع. في هذا النص ذُكِرَ إسم ألاعمى.
إن ذكر الإسم قد يكون دليلاً على اتّباع هذا الشخص ليسوع ودخوله في الجماعة الكَنَسِيَّة.
الجموع: كما في رواية الإمرأة النازفة، وفي رواية الكسيح في كفرناحوم، وفي رواية زكّا العشّار، يشكّل الجموع حاجزاً بين الانسان الطالِب للشِفاء وبين يسوع المسيح. إنّهم مجموعة تتبع يسوع لأسباب شخصيّة، بدافع من الحشريّة أو طلباً لشفاء.
لم يدخلوا حتّى الآن في سرّ هويّة يسوع المسيح، لم يقبلوا حقيقة المسيح المتألّم والمائت.
التلاميذ: إنهم أشخاص تَبِعوا يسوع المسيح، إقتَنَعوا بمنطِقِه انّما لا يزالون على الحياد وغير مُدرِكين ماذا يَحدُث. إنّهم أشخاص في مسيرة تعلّم، أحياناً يفكّرون مثل الجموع، يريدون من يسوع تلبية رغباتهم،
كما في النّص السابق لرواية الشفاء هذه حين يطلب ابنا زبدى من يسوع إجلاسهما عن يمينه وعن يساره في مجده (مر 10، 35-36)، وأحياناً أخرى كانوا يتجادلون في من هو الأعظم بينهم (مر 9، 33-37).
في القسم الأول من الأناجيل الازائية، تَبِعَ التلاميذ يسوع وهم لا يفهمون شيئًا، كان لكُلّ واحِدٍ منهم نظرة خاصَّة حوله. منهم من كان يَعتَقِد أن يسوع جاء لِيُخَلِّصَهم من الاحتلال الروماني، ومنهم من رأى فيه معلّماً كسائر المعلّمين، وبطرس نفسه سَحَبَ السيف ليُدافِع عن يسوع ليلة أُسلِمَ إلى اليهود.
الأماكن:
أريحا: تَقَع هذه المدينة في شرق الاراضي المُقَدَّسة على حدود الأردن وهي بالتالي ليست قريبة من أورشليم.
لدينا هنا نَقْلَة جُغرافِيَّة. لا نَعرِف حتى الان ما الرابِط بين المِنطقتين انما سنجِد هذا الرابِط من خلال الآية الاخيرة في هذا النص:
“وتَبِعَ يسوع في الطريق”. هذه الطريق لم تَكُن قصيرة أو سهلة انما كانت طويلة. هي ليست فقط الطريق الجُغرافيَّة التي تربط أريحا بأورشليم إنما هي خاصّةً الطريق الروحية، طريق التتلمذ ليسوع المسيح.
أورشليم هي نقطة الوصول، هي مكان الألم والموت، مكان تمجيد يسوع على الصليب. لدى دخول يسوع اليها أعلنته الجموع مخلّصها وابن داود المُنتَظر، وأمام بيلاطس صرخوا ضدّه ليُصلب. إن أورشليم هي غاية المسيرة ومكان إتّمام فصح العبور من أرض الخطيئة الى أرض الميعاد، عبور يتمّ بدم يسوع المسيح المعلّق فوق الصليب.
هذا النص يسبق دخول يسوع الى أورشليم، كتتميم لنبوءات العهد القديم في شخص يسوع المسيح.
النوع الأدبيّ:
يندرج هذا النص ضمن مجموعة معجزات الشفاء، وكسائر روايات الشفاء في إنجيل مرقس وفي الازائيين، يَتَكَوَّن هذا النّص من الأجزاء التالية:
– يسوع مَارًّا في الطريق
– التلاميذ مقابِل الجموع
– الشَخص المُحتاج
– نوع المَرَض أو الحاجة
– الانطلاق نحو يسوع
– إعلان الحاجة وطلب التدخّل (في أغلب الاحيان تُحاوِل الجموع وحتى التلاميذ إبعاد الشَخْص عن يسوع(
– تَدَخُّل من يسوع مع حوار بين الاثنين
– إعلان الايمان من قِبَلِ الشخص المُحتاج
– إعلان الشِفاء من قِبَل يسوع المسيح
رأينا سابِقًا، في إنجيل مرقس وفي الأناجيل الازائيَّة، يسوع المسيح يمنع الشخصَ المُحتاج من إعلان هويّته ونشر خبر المعجزة. هذا ما سُمِّيَ بالسِرِّ المسيحاني في إنجيل مرقس وأخذه عنه الإزائيّيَن الآخَرَين.
أمّا هنا فلا نجد لهذا السرّ المسيحانيّ من أثر: لقد بدأ المسيح يعلن سرّ هويّته تمهيداً للإعتلان الأعظم على الصليب. من خلال شفاء الأعمى بدأ الرّب “يفتح عيون الشعب ليبصروا ويعودوا إليه فيشفيهم”. لهذا السبب نجد سلسلة من الإعتلانات في هذا الجزء من الإنجيل: الدخول الى أورشليم (مر 11)، يسوع يعلن عن خراب الهيكل والتحذيرات حول الخراب العظيم ومجيء ابن الإنسان (مر 13) وصولا إلى أحداث الآلام والقيامة.
لهذا السبب لا نجد أثراً للسرّ المسيحانيّ في هذا النّصّ: لقد صَرَخ الأعمى بأعلى صَوتِه، وبأكبَر لَقَب مسيحاني مُمكِن أن يُطْلَقَ على إنسان يهودي، “يا ابن داود” أي المسيح المُنتَظَر. اليهود يَعرِفونَ العَهدِ القَديم وتَحْديدًا سِفر صَموئيل الثاني ويُدرِكون ما هي نُبُوءَة ناتان وَيَعْرِفون الوَعْد الذي قَطَعَهُ الله منذ ألفين سنة للشعب الاسرائيلي بأن يُرسِل من نسل داود مَن يَجْلِس على عَرْشِه إلى الابد ولا يَكون لِمُلْكِهِ إنقِضاء.
بِقولِهِ هذه العِبارة “يا ابن داود ارحمني”، يُعَرِّض الاعمى نَفسَه للرَجْمِ في مَجمَعِ اليهود لانه أطلَقَ إسمِ المسيح ابن داود على شَخص مارّ في الطَريق بِرِحلة حَجّ من الجليل إلى أورَشليم في عيد المَظال.
هذا الصِياح ما هو إِلاَّ مقدّمة لهتافات الجموع عندما دَخَلَ يسوع أورشليم كَمَلِكٍ ظَافِر: “هوشعنا! تبارك الآتي باسم الربّ! تباركت المملكة الآتية، مملكة أبينا داود! هوشعنا في العلى”!
“جالِسًا على جانِبِ الطريق”
جانب الطريق: ليست مُجَرَّد المكان الجُغرافي انما أيضًا الروحي . para tyn hodonعبارة نَجِدها أيضاً في مثل الزارع، حيث تسقط البذار على جانب الطريق وتبقى عقيمة. البِذار المُلقاة إلى جانِبِ الطريق بَقيت خارِج سِرّ يسوع المسيح، بَقِيتpara وبالتالي لا يُمكِن أن تَلتَقي مع يسوع المسيح.
في هذا النَصّ إِنتَقَلَ الأعمى من قارِعَة الطريق إلى إِتِّباع يسوع. لقد كان الأعمى على هامش الوجود. إنه شخص فاقِد للمركز الاجتماعي وللهوية والمُستقبل.
جالِسًا: كان جالِسًا لِمُدَّةٍ طويلة وكان بقي جالساً هناك لولا مرور يسوع في حياته. نوعية الفعل اليونانيّ تَدُلّ على الجمود والثَبَات وهذا قبلَ أن يَلتَقي بيسوع المسيح. بعد وصول يسوع المسيح تَغَيَّرت نوعِيَّة الأفعال: “ألقَى رِداءَهُ وقام وجاء” هناك إنتِقال مِن حالَة الجُمود الذي كان يَعيش فيه الاعمى إلى حالة الحَرَكة، إنتِقال من حالة الانسان المُهَمَّش إلى حالَة الانسان الذي وَجَدَ هَوِيَّتَهُ، وَجَدَ الطريق الذي يجِب أن يَسْلُكَها وهي طريق يسوع المسيح.
هذا النَصّ هو نَصّ رابِط بين مرحلة ومرحلة أُخرى أو بين قِسم من الإنجيل وقِسم آخَر أو يُسَمَّى أيضًا النص الجِسر. يُمَهِّد مرقس من خلال هذا النص للاحداث التي سَتَتِمّ لاحِقًا بطريقة رَمْزِيَّة، من هنا الاختلاف بين هذه المُعْجِزة وسَائِرِ المُعجِزات.
في هذه المُعْجِزة نَجِد إنتقال من العَمَى إلى الرؤيا تَحقيقًا لِنُبُوءة أشِعيا (في تلك الأيام عندما يأتي المسيح العُميُ يُبصِرون والأعرج يَقفِزُ كالأيِّل). استعملَ مرقس الفعل نَفْسُه: فَوَثَبَ وَرَكَضَ عليه. هذا الانتقال من حالة العَمَى إلى حالة الرؤيا ليست مُجَرَّد حادِثة مع برتيماوس، الشعب كُلُّه قد أصبَحَ بإمكانه الانتقال من حالة عَدَم رؤيَة حَقيقة يسوع المسيح إلى حالة رؤية يسوع المسيح الحقيقي ابن داود بالصورة التي يجب عليهم أن يَروه فيها وليس حسب تَصَوُّرِهِم.
يسوع المسيح ليس القائد العسكري الذي أتى لكي يُبيد الرومانيين وليس صانِعِ المُعْجِزات فقط إنما هو يسوع المسيح تتمة نُبُوءات العهد القديم.
رَمَى رِداءَه
الرِداء لدى الشَحاذ هو كُلّ ما يَمْلِكُ، ليس فقط من الناحية الماديّة انما أيضا من ناحية المَقَام والمَركَز الاجتِماعي. الرِداء يُظهِر مَقام الانسان ويُظهِر أن لديه هوية رغم فَقرِه. بتركه ردائه، ترك الأعمى كلّ شيء في سبيل إتّباع يسوع المسيح. وفي الحادِثة التي تلي شِفاءِ الاعمى، أي رواية دخول يسوع الى أورشليم، نجد العمل ذاته يتكرّر: رمى الناس رِداءَهم على الطريق أمام يسوع. صَرَخَ الاعمى يا ابن داود ارحمني وصَرَخَ الشعب مُبارك المسيح ابن داود، هوشعنا يا رَبّ خَلِّصْنا.
وتَبِعَ يسوع في الطريق
السير خلف يعني التتلمذ، سارَ الأعمى البصير خَلفَ يسوع في الطريق، تماماً كما فعل بطرس حين وجّه يسوع الدعوة نفسها اليه:
قال له سِرْ خَلْفي. لقد صار الأعمى المشفيّ تلميذاً وبدأ يسير على الطريق التي سبقه بطرس في خطّها. هذه الطريق هي طريق اعتناق مَنْطِق يسوع المسيح والتَتَلْمُذ له والانطِلاق نحو أورَشليم إلى الموت والقِيامة، إنها دَعوة التلميذ المسيحي أن يسير خَلفَ يسوع المسيح نحو الموت والقيامة.
هذا الإنجيل كُتِبَ إلى جَماعة روما المُتَأَلِّمَة من الاضطهاد، وكان الكثير منهم يَجحدون الإيمان بسبب الاضطِهاد وخوفًا من الموت. وهنا يُعلِن مرقس لكنيسة روما أن التلميذ الحقيقي هو الذي يَختار السير وراء يسوع المسيح وصولاً إلى الموت.
Discussion about this post