أحد الشعانين
ملوكية يسوع المسيح
فيليبي 1/1-13
يوحنا 12/12-22
في ختام الصوم الأربعيني، تتذكر الكنيسة دخول الرب يسوع إلى أورشليم، وإعلانه ملكاً بعفوية الشعب والأطفال. من خلال هذا الاحتفال تبيّنت ملامح ملوكيته في جوهرها، هذه التي أشركنا فيها بالمعمودية ومسحة الميرون. في مسيرة الصوم والصلاة والتوبة والتصدّق جددنا رسالتنا الملوكية القائمة على إحلال الحقيقة والمحبة والحرية والعدالة. وبلغنا إلى الميناء، لندخل مع المسيح إلى عالم متجدد هو العائلة والرعية، المجتمع والوطن.
أولاً، القراءات
من إنجيل القديس يوحنا: 12/12-24
لَمَّا سَمِعَ الـجَمْعُ الكَثِير، الَّذي أَتَى إِلى العِيد، أَنَّ يَسُوعَ آتٍ إِلى أُورَشَليم، حَمَلُوا سَعَفَ النَّخْلِ، وخَرَجُوا إِلى مُلاقَاتِهِ وهُمْ يَصْرُخُون: “هُوشَعْنَا! مُبَارَكٌ الآتِي بِاسْمِ الرَّبّ، مَلِكُ إِسرائِيل”. ووَجَدَ يَسُوعُ جَحْشًا فَرَكِبَ عَلَيْه، كَمَا هُوَ مَكْتُوب: “لا تَخَافِي، يَا ابْنَةَ صِهْيُون، هُوَذَا مَلِكُكِ يَأْتِي رَاكِبًا عَلى جَحْشٍ ابْنِ أَتَان”. ومَا فَهِمَ تَلامِيذُهُ ذـلِكَ، أَوَّلَ الأَمْر، ولـكِنَّهُم تَذَكَّرُوا، حِينَ مُجِّدَ يَسُوع، أَنَّ ذـلِكَ كُتِبَ عَنْهُ، وأَنَّهُم صَنَعُوهُ لَهُ. والـجَمْعُ الَّذي كَانَ مَعَ يَسُوع، حِينَ دَعَا لَعَازَرَ مِنَ القَبْرِ وأَقَامَهُ مِنْ بَيْنِ الأَمْوَات، كَانَ يَشْهَدُ لَهُ. مِنْ أَجْلِ هـذَا أَيْضًا لاقَاهُ الـجَمْع، لأَنَّهُم سَمِعُوا أَنَّهُ صَنَعَ تِلْكَ الآيَة. فَقَالَ الفَرِّيسِيُّونَ بَعْضُهُم لِبَعْض: “أُنْظُرُوا: إِنَّكُم لا تَنْفَعُونَ شَيْئًا! هَا هُوَ العَالَمُ قَدْ ذَهَبَ ورَاءَهُ!”. وكَانَ بَينَ الصَّاعِدِينَ لِيَسْجُدُوا في العِيد، بَعْضُ اليُونَانِيِّين. فَدَنَا هـؤُلاءِ مِنْ فِيلِبُّسَ الَّذي مِنْ بَيْتَ صَيْدَا الـجَلِيل، وسَأَلُوهُ قَائِلين:”يَا سَيِّد، نُرِيدُ أَنْ نَرَى يَسُوع”. َجَاءَ فِيلِبُّسُ وقَالَ لأَنْدرَاوُس، وأَنْدرَاوُسُ وفِيلِبُّسُ وقَالا لِيَسُوع.
يسوع يصعد لآخر مرة إلى أورشليم ليشارك للمرة الأخيرة في عيد الفصح اليهودي. هو الصعود الأخير، هذه المرة، لا إلى الهيكل الحجري حيث أراد الله ان يتّخذ اسمه مسكناً (تثنية الاشتراع،12: 11؛ 14: 23)، بل إلى الهيكل الذي لم تصنعه الأيدي، إلى حضرة الله، عبر الصليب الذي هو سرّ ” المحبة حتى النهاية” (يو13: 1). صعوده إلى جبل الله الحقيقي، المكان النهائي للقاء الله والإنسان.
وهي المشاركة الأخيرة بالفصح الذي حوّله يسوع إلى ” فصحه” الشخصي أي موته ذبيحة فداء عن الجنس البشري، وهو حمل العهد الجديد، ووليمة جسده ودمه لحياة العالم، وقيامته التي عبر بها وبالبشرية المفتداة من الموت إلى الحياة الجديدة.
وكان قد استبق هذا ” الفصح الجديد” بإقامة لعازر من القبر، قبل ستة أيام (يو12: 1)، وبقبول مبادرة مريم أخت لعازر التي سكبت قارورة الطيب الغالي الثمن على قدمي يسوع، إذ اعتبرها استباقاً لتطييب جسده يوم دفنه المزمع (انظر يو:12/3 و7).
استقبلته الجموع في أورشليم، استقبال الملوك بسعف النخل والزيتون، وبكلمات المزمور 118: ” هوشعنا مبارك الآتي باسم الرب ملك اسرائيل” ( يو12: 13).
ظهرت ملامح ملوكية يسوع في جوهرها.
ملوكيته موت وقيامة من أجل فداء العالم وانبعاثه لحياة جديدة، على مثال حبة الحنطة التي تقع في الأرض وتموت فتعطي السنبلة (يو12: 24)؛ ملوكية الحب الأعظم الذي يبذل فيه نفسه عن أحبائه؛ ملوكية الوداعة والتواضع المرموز إليهما بدخوله ” على ظهر جحش” وضيع، لا على عربة الخيل كالامبراطور؛ ملوكية السلام الذي ينتزع كل خوف وتهديد من القلوب: ” لا تخافي، يا ابنة صهيون”؛ملوكية العبادة لله بالروح والحق (يو4: 23)، ولهذا دخل الهيكل، كما يروي إنجيل متى، وطرد البائعين والشارين، وقلب موائد الصيارفة، ومقاعد باعة الحمام، وقال: ” بيتي بيت صلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة للصوص” ( متى21: 12 و13). لقد طهّر الهيكل ليكون مكان التلاقي بين الله والإنسان؛ ملوكية الرحمة والشفاء، فمن بعد أن طهّر الهيكل الحجري، اعتنى بالهيكل البشري، وشفى أعميين ومقعدين كانوا قد قُدّموا إليه (متى21: 14).
إلى هذه الملوكية نحن ننتمي بسرّي المعمودية والميرون، لنلتزم بإحلالها في العائلة والرعية والمجتمع والوطن. تُعاش هذه الملوكية وتتجلّى في مملكة المسيح التي هي الكنيسة.
يوم الشعانين هو عيد الأطفال والشبيبة، لأنهم هم الذين بعفوية إيمانهم ومحبة قلوبهم يستقبلون المسيح الملك في حياتهم، وهو يجعلهم قوّة تجددية في الكنيسة والمجتمع.
عيدهم دعوة للاهتمام بتربيتهم الروحية والثقافية والأخلاقية، ولإعطائهم دورهم البنّاء من أجل بناء محتمع أفضل. فالشباب الواعي والمسؤول هم ضمانة المستقبل وأمله.
***
ثانياً، درب الصليب على خطى المسيح الفادي
نتأمل يسوع مائتاً على الصليب
في ذلك يوم الجمعة عندما صُلب يسوع، وقع الظلام على الأرض كلها من الساعة الثانية عشرة ظهراً حتى الثالثة. فأظلمت الشمس، وانشق حجاب الهيكل من وسطه. وصرخ يسوع صرخة عظيمة وقال: يا أبتِ بين يديك استودع روحي. قال هذا ولفظ الروح (لو23: 44-46).
الظلام الذي وقع تنبأ عنه يسوع، عندما أسلمه يهوذا الى عظماء الكهنة والشيوخ وقواد حراس الهيكل، إذ قال: ” هذي هي ساعتكم، وهذا هو سلطان الظلام” ( لو22: 52-53). يبدو أن هذا الظلام غلب الأرض حيث مات الإله-الإنسان. أجل، كان على ابن الله، لكي يكون حقاً إنساناً وأخاً لنا، أن يشرب هو أيضاً كأس الموت الذي هو حقاً هوية جميع بني آدم. وبهذا يصبح المسيح “شبيهاً بإخوته في كل شيء” ( عبرانيين 2: 17). صار بالحقيقة والكليّة واحداً منا، حاضراً معنا في النزاع الكبير بين الحياة والموت، بل مع كل إنسان ينازع ويموت على مدى التاريخ.
” أحبهم حتى النهاية” (يو13: 1). بموت يسوع على الصليب تجلّى الله المحب لخلائقه حتى الاحتباس الحرّ ضمن حدود الألم والموت. وكان المصلوب لجميع الشعوب علامة مزدوجة: علامة بشرية شاملة لوحشة الموت والظلم والشر التي اختبرها ” الجموع الذين احتشدوا وشاهدوا ورجعوا قارعين الصدور، والنساء وغيرهم من أصحاب يسوع الذين وقفوا بعيداً يشاهدون” ( لو 23: 48-49)؛ وعلامة إلهية شاملة للرجاء، لانتظارات كل إنسان يبحث بقلق عن الحقيقة، وهو متمثل ” بقائد المئة الذي، لما رأى ما جرى، مجّد الله وقال: حقاً، إن هذا الرجل كان باراً!” (لو23: 47).
أظلمت الشمس، لأن من هو نور العالم قد اغتيل. و” انشق حجاب الهيكل” لأن رب الهيكل قد طُرد منه. وبهاتين العلامتين دلالة أن الشمس والهيكل يأخذان معناهما وقيمتهما من المسيح ” النور الحقيقي” و ” رب كل هيكل”.
في لحظة موت يسوع وقد ” أسلم الروح“، زرع في آلام جميع الناس وميتاتهم بذور الحياة الأبدية. بقوة ” الروح” ينتشلهم من لجة الموت إلى الحياة لدى الله، إذا عاشوا أوفياء له، ومخلَّصين بالمسيح. وهم في ساعة موتهم يرددون بالرجاء الوطيد والثقة البنوية: ” يا أبتِ، بين يديك استودع روحي”.
***
ثالثاً، السنة الكهنوتية: الكاهن خادم أسرار الكنيسة الخلاصية
الكاهن هو وكيل أسرار الله، يحتفل بها ويوزع نعمها على المؤمنين والمؤمنات. المسيح أنشأ الأسرار السبعة التي تشكل وحدة عضوية متكاملة، وتقسم إلى ثلاثة: أسرار التنشئة المسيحية:المعمودية والميرون والقربان، وأسرار الشفاء: التوبة ومسحة المرضى، وأسرار الرسالة: الزواج والكهنوت.
إنها تلامس كل مراحل الحياة المسيحية التي تشبه مراحل الحياة البشرية: الولادة بالمعمودية؛ النمو بالميرون وعطية الروح القدس؛ الاغتذاء من الحياة الأبدية بالقربان؛ الشفاء من الخطيئة بالتوبة ومن أمراض الجسد والروح بمسحة المرضى؛ الرسالة وتواصل نقل الحياة البشرية بالزواج، ونقل الحياة الإلهية بالكهنوت. هذا التشبيه أجراه القديس توما الاكويني.
يحتل سرّ القربان في هذه الوحدة العضوية بين الأسرار مكانة مميّزة، لأنها تنطلق كلها منه، وإليه تترتّب كإلى غايتها بأجمعها[10].
سرّ المعمودية:
يحمل الكاهن اسم” أب” و ” أبونا” بفضل سرّ المعمودية الذي هو الولادة الثانية من الماء بقوة الكلمة وعمل الروح القدس. على يد الكاهن يولد المؤمنون أبناء لله بالنعمة. إنها أبوّة روحية تنشىء بين الكاهن والمؤمن رباطاً عضوياً روحياً يكون الأساس لعمله الكهنوتي والراعوي.
المعمودية هي المدخل إلى الحياة بالروح القدس، والباب إلى الأسرار الستة الأخرى. بالمعمودية يتحرر الإنسان من الخطيئة ويولد من جديد ابناً لله؛ يصبح عضواً في جسد المسيح، ومنتمياً إلى الكنيسة، ومشاركاً في رسالتها.
الولادة الجديدة التي تتم بالمعمودية إنما تتحقق بالنزول إلى الماء أو بسكبه على الرأس ثلاث مرات مع لفظ كلمات التعميد وبذلك ترمز إلى الموت مع المسيح عن الخطيئة وإلى القيامة معه للحياة الجديدة بالروح. ويصبح المعمّد ” خليقة جديدة” ( 2كور 5: 17)، تستنير بكلمة الله ” النور الذي ينير كل إنسان” ( يو1: 9). وهكذا يصير المعمد من ” أبناء النور”، بل نوراً يعكس وجه المسيح (1 تسا 5: 5).
أما رموز المعمودية والعلامات التي تحمل معاني روحية فهي: الماء يعني غسل النفس من الخطيئة؛ المسحة بزيت المعمودية تدل على المشاركة في كهنوت المسيح وملوكيته؛ الثوب الأبيض علامة النعمة التي تستر خجلنا؛ الشموع ترمز إلى إشعاع الإيمان في حياة المسيحي. المعمودية عطية مجّانية من الله، ونعمة لا تفترض أي استحقاق من الإنسان، وطابع لا يُمحى للدلالة على سيادة الله المطلقة[11].
لعناصر المعمودية ومفاعيلها صور في العهد القديم رمزت إليها:
المياه في بداية الخلق هي ينبوع الحياة والخصوبة. وهي أول عنصر في عملية الخلق، وكان روح الرب يرفرف فوقها (تكوين1: 2). المعمودية هي الخلق الجديد من الماء والروح (يو3: 5).
سفينة نوح التي حمت من الطوفان ترمز إلى الخلاص بالمعمودية التي تعطى في داخل الكنيسة سفينة الخلاص (1بطرس3: 20). ماء الطوفان وضع نهاية للشر، وبداية للخير. هكذا ماء المعمودية يُميت الخطيئة، ويُنبت النعمة. عبور البحر الأحمر يعني تحرير شعب الله من عبودية مصر، ويرمز إلى تحرير المعمّد من عبودية الخطيئة والشيطان والشر. عبور نهر الاردن الذي نال به شعب الله أرض الموعد لنسل ابراهيم هو صورة للحياة الأبدية التي يعد بها الله ميراثه المبارك[12].
***
صلاة
أيها الرب يسوع، ها نحن في نهاية مسيرة الصوم الأربعيني، قد بلغنا إليك عبر الصوم والصلاة والتوبة وأعمال المحبة والرحمة. فادخل ملكاً على قلوبنا. ادخل إلى عائلاتنا ومجتمعنا ووطننا، لنوطّد معك الحقيقة والمحبة والحرية والعدالة، فيحّل السلام الحقيقي. أبهج أطفالنا وشبابنا بعيدهم، وليظلوا، بفضل تربيتهم الروحية والثقافية والأخلاقية، أفواهاً صافية وقلوباً نقيّة تشهد لك وتعلنك الملك المطلق والأسمى. سرّ بنا في أسبوع آلامك وموتك لنتقدس بها ونقدّس أوجاعنا وأمراضنا وهواجسنا. قدّس الكهنة، وكلاء أسرار الله الخلاصية، ليوزّعوها بأمانة وسخاء وغيرة، من أجل حياة عالمنا الذي تعبر به بفصحك الى حياة جديدة. فنرفع آيات الشكر والمجد والتسبيح للآب والابن والروح القدس، الآن وإلى الأبد، آمين.
البطريرك بشارة الراعي
Discussion about this post