الأب جان بول اليسوعي
إنّ موضوع ألوهيّة المسيح وما قاله هو عن نفسه في هذا المضمار, يمكن أن نبدأ في التثبّت من حقيقته بالعودة إلى ما أدلى به الأنبياء الذين بشّروا بمجيئه على مدى أجيال طويلة, قبل أن “يحلّ ملء الزمن” ويتجسّد ويولد في بيت لحم اليهوديّة.
فمن الواضح أنّ تلك النبوءات هي أكبر من أن يفوه بها إنسان من عنده, وفيها بُعدٌ روحيّ حقيقيّ. فلا بدّ وأنّ مصدرها روح الله وهي أتت لتسبق كلام المسيح وأعماله, وتؤكد أنّها من لدن الله صدرت. وفوق هذا التأكيد النبويّ فالمسيح نفسه كان يردّد أنّه ابن الله ومشابهٌ للآب, ويثبت تلك الأقوال بالعجائب. فالأعجوبة الحقيقيّة هي علامة جليّة لتدخّل الله المباشر في أمور الناس. وعندما تأتي الأعجوبة استجابة لطلبه, يُصبح من المنطق أن تُحسب وكأنّها علامة رضى عنه من لدن الله. ومن المعروف أنّ الله لا يتدخّل لإحداث أمر ما فيه شرّ أو هو مبنيّ على خطأ. ومن المنطق أيضاً ألا يضع الله قدرته الفائقة في متناول يد إنسان لا يصدق في كلامه.
وحياة يسوع مليئة بالأحداث التي تُظهر من خلالها تلك القوّة. فهكذا أوجز القدّيس مرقس أعماله في الجليل بقوله: “فانصرف يسوع إلى البحر ومعه تلاميذه, وتبعه حشدُ كبير من الجليل, وجمع كثير من اليهوديّة, ومن أورشليم وأدوم وعبر الأردنّ ونواحي صور وصيدا, وقد سمعوا بما يصنع, فجاؤوا إليه. أمر تلاميذه بأن يجعلوا له زورقاً يلازمه, مخافة أن يضايقه الجمع, لأنّه شفى كثيرا من الناس, حتّى أصبح كلّ من به علّة يتهافت عليه ليلمسه. وكانت الأرواح النجسة, إذا رأته, ترتمي على قدميه وتصيح: “أنت ابن الله!”, فكان ينهاها بشدّة عن كشف أمره”.
ولكن بين كلّ ما قام به المسيح ليُبرهن للناس أنّه ابن الله, تبقى الأعجوبة الأبرز قيامته من بين الأموات. فلأعاجيب المسيح وجهان:
وجه يُظهِرُ ما في قلبه من عطف على المريض والمتألّم, وآخر يشير إلى القدرة الفائقة على الإيمان بالله. وما من شكّ في أنّ الأعاجيبب تشكّل قوّة برهان حقيقيّة.
يخبرنا القدّيس متّى في إنجيله عن رجل اسمه يوحنّا أتى ليمهّد الطريق للمسيح. طرحه هيرودس الملك في السجن لأنّه تجاسر وقال له إنّه لا يحلّ له أن يأخذ امرأة أخيه.
ومن سجنه سمع يوحنّا يوماً أنّ إنساناً يجوب المنطقة يجترح العجائب ويُعلّم كمَن له سلطان, ويقول عن نفسه انّه المسيح ابن الله.
فشعر يوحنّا في عمق نفسه بشيء من البهجة التي دفعته كي يهمس في أذن أحد تلاميذه كان قد أتى لزيارته, طالباً إليه أن يقصد ذاك الإنسان ليسأله عن حقيقة ما سمعه يوحنّا.
كان يجول في بال يوحنّا السؤال نفسه الذي يجول ببالك وببالي عن ذاك الإنسان. أتراه المسيح المُخلّص أم لا ؟
وفي حين كان يسوع يتنقّل في قرى الجليل يُعلّم ويشفي, إذا بذاك التلميذ الذي أرسله يوحنّا يستوقفه مع بعض من رفاقه ويقول له بكلّ صراحة: لقد أرسلنا يوحنّا لنسألك هل أنت الآتي أم ننتظر آخر؟ السؤال كبير وأساسيّ, وما كان من الممكن أن يأتي الجواب عنه بنَعم أم لا. فذاك الشخص القابع في غرفة مظلمة من سجن هيرودس كان ينتظر أكثر من ذلك, تماماً كما ننتظر أنتَ وأنا.
كان يوحنّا على علم واسع بنبوءات العهد القديم, وكان يدرك أهميّتها جيّدا, كما انّه يعرف إذا كان ذلك الشخص حقاً ابن الله والمسيح المخلّص, لا بدّ وأن تحتوي إجابته على شيء من البرهان عن حقيقة كيانه, وهو لن يكتفي بإجابة بسيطة غير معلّلة.
هنالك من يقول بأنّ يوحنّا المعمدان كان يُدرك تماماً أنّ ذاك الشخص هو المسيح الذي سبق وعمّده في نهر الأردنّ. ولكنّ السؤال الكبير الذي طرحه عليه كان فيه بعض استدراج للإجابة عن سؤالك أنتَ وسؤالي عن هويّة ذاك المُعلّم والشافي. ومنهم مَن قال أيضاً انّه لو لم يُدرك يوحنّا أنّ ذلك هو المسيح, لما أمكنه تحمّل مشقّات السجن وآلامه.
وهكذا أتت إجابة يسوع عن هويّته ورسالته تماماً كما توقّعها يوحنّا وكما يتمنّاها كلّ متسائل, فقال لهم: “إذهبوا واخبروا يوحنّا بما رأيتم وسمعتم: العميان يُبصرون, والعُرج يمشون, والصّم يسمعون, والبُرص يُطَهّرون, والمساكين يُبَشّرون… وطوبى لِمن لا يشكّ فيّ “.
إنّ ما يكمن في هذه الإجابة من معان, وفي عجائب المسيح من قوّة وسُلطة على الطبيعة وقوانينها, يُشير إلى أنّ في هذا الشخص ما هو فوق البشر. وبما أنّه يقول عن نفسه انّه الله, فمن حقّنا أن ننتظر أن يقوم بما يوحي بأنّ له قُدرة فائقة. وما الأعاجيب إلاّ من صُنع الله أو من صُنع مَن يعمل باسم الله.
كلّ شيء في الطبيعة يعمل بحسب قواعد معروفة ومقبولة مِن كلّ مَن يتفحّصها بطريقة علميّة. ومِن دون تلك القواعد فلا الأطبّاء يمكنهم معالجة مريض, وما من مهندس يستطيع أن يبني بيتاُ أو يُعبّد طريقاً, ولا يبقى لأستاذ ما يُعلّمه لطلاّبه.
نحن البشر نبدأ في التعرّف على تلك القواعد والقوانين منذ ولادتنا. فوراء الصرخة الأولى التي يُطلقها الطفل قاعدة, وعندما يقع الطفل أو تسقط من يده لعبته يتعلّم أمثولة جديدة. وعندما يكبر وتتكرّر تلك الأمور يُدرك أنّ هذا النهج أصبح ثابتاً وغدا بمثابة قاعدة طبيعيّة.
يرفع الطفل طرفه نحو النجوم ويُسائل نفسه ما الذي يُبقي على كتلات النار تلك معلّقة حيث هي. ولِمَ لا تقع الشمس ويهبط القمر على الأرض؟ وما ينتهي الطفل إلى قبوله وكأنّه أمر طبيعيّ إنّما هو في الواقع كناية عن مجموعة من القوانين أو القواعد الثابتة.
وليس من حاجة إلى محاكم للتأكد من تطبيق تلك القوانين, فهي لا تُخطئ أبداً, ولا نتساءل نحن في شأنها إلاّ عندما نرى فجأة ميتاً يستفيق أو أعمى يعود إليه نظره, أو مقعداً ينهض لِتوّه ويمشي, أو أصمّ يستعيد سمعه… إنّ فهم مثل هذه الخوارق للقوانين الطبيعيّة يستحيل علينا فهمها. ولكنّه ليس بالصعب أن نعرف مصدرها.
إنّ مخترع المُحرّك الكهربائيّ وضع له قوانينه. وقوانين المجرّات في الفلك وضعها أيضاً خالقها… وهكذا يعود بناء المنطق بصمت إلى الخالق, ونجد أنفسنا على أقدام الله, الله الذي خلق السموات والأرض والكون بأسره, وهو يُدرك ما في قلب الإنسان وعقله, وما يكمن في عمق نفسه…
وعندما نشهد بأمّ العين خرقاً واضحاً وحقيقيّاً لتلكَ القوانين, نُدرك, بما لا يقبل الشّك, أنّنا أمام قدرة تفوق الطبيعة لا بدّ وأن يكون مصدرها إمّا روح ملاك وإمّا روح شرّير, وإمّا الله تعالى ذاته.
بيد أنّه ما من روح ملاك, مهما علا شأنها, أو روح شرّ مهما اشتدّ عزمها, إلا وتستمدّ هي أيضاً قوّتها من قدرة باريها. أمّا الملاك فهو دوماً في توقٍ إلى أن يعمل عمل الله ويُمجّد خالقه ومنبع قدرته.
أمّا روح الشّر فيبحث كيف يُحقّق إرادته هو ويعمل ما يخدم أهداف أنانيته. فبإمكانه أن يلج إنساناً بثوب حمل, ولكن سُرعان ما يظهر مكره فتتبدّد الوعود لتحلّ مكانها الخيبة في النفس ويعمّ الضياع.
وقد يقود ذلك الروح إنساناً إلى علوّ جبل ويوهمه بأنّ العالم كلّه مطروح على قدميه إذا ما انساق هو إلى مشيئته… ولكن مهما بلغت قوّة الشّرير أو عَظُمت قدرة احتياله, يبقى السؤال مطروحاً أمامنا عندما نرى الأصمّ يسمع, والأعمى يبصر, والمُقعد ينتصب ويمشي: هل من المعقول أن يكون ذلك من صنع الشّرير؟ وهل هنالك من شكّ في أنّ روح الله وحده هو الذي يمكنه أن يشرق مثل هذا النور في حياة إنسان معذّب ؟
يبدو الجواب عن هذا السؤال واضحاً: عندما يعود النور إلى عيون أعمى, وتتسرّب أنغام الموسيقى العذبة مُجدّداً إلى آذان صمّاء, أو تعود الروح فجأة إلى جسم مائت, فذلك لأنّ أحداً توسّل إلى الله من أجل أولئك المرضى.
آنذاك تبدأ الأسرار تتبدّد وغامض الأمور يتّضح. فهل يُعقل ألاّ يستجيب الله المُحِبّ دُعاء محبّيه, وأن يسمح لروح الشر بأن يحتال إلى حدّ اجتراح أعمال الخير وهو لا خير فيه ؟ إنّ في ذلك من التناقض ما لا يُمكن أن يُنسب إلى الله.
وممّا يُساعد على استيضاح طبيعة الأعاجيب والمعجزات, النظر عن كثب في ما يحيط بها من وقائع, وما يكتنف حدوثها من ظروف. فما يسبق الأعجوبة وما ينتج منها إنّما هو دائماً أمر حسن. في الأعجوبة خير في البداية وأثناءها كما في النهاية.
لقد قيل سابقاً: إنّ ظروف الأحداث توضح دائماً حقيقتها. وبخصوص ما نحن في صدده, فما من شكّ في أنّ روح القداسة تُخيّم في الأجواء, لأنّ البداية ليست سوى تضرّع صادق ومُحبّ إلى الله القدير المُحبّ. لذا فنحن على يقين من أنّ يدُ الله هي التي تجترح تلك الأعمال الخارقة الطبيعة التي نشهد.
ولكن إذا ما أحاطت بالأعمال ظروف غامضة وخيّمت عليها غيوم الغشّ والأنانيّة, فيد الله ليست فيها, ولا يمكنها أن تكون من صنعه. فعمل الشّر من الشّرير.
لذلك عندما أراد اليهود أن ينسبوا الشّر إلى المسيح, قالوا انّه بِبعل زبول يجترح العجائب: فوجد المسيح نفسه مضطّراً إلى أن يقول لهم بكثير من التّحدّي: “من منكم يمكنه أن ينسب إليّ الشّر, أو يشكوني بخطيئة ؟”.
ما من أحد عبر التاريخ اتّهم يسوع بالفساد. قد أنكره بعضهم, وبعضهم الآخر رأى أنّه على شيء من السذاجة, إذ انّه كان يُنادي بِحُبّ الأعداء ويؤاكل العشّارين ويتقرّب من الخطأة… ولكنّ سؤاله يبقى مدوّياً في الآذان: مَن منكم يمكنه أن يشكوني بِشرّ أو ينسب إليّ خطيئة ؟
عندما يتمكّن إنسان, بكلمة ما من فيه, أن يُقيم ميتاً, أو بلمسة من يده أن يفتح عينيّ الأعمى ويطهّر الأبرص من مرضه, فهنالك موقف سليم واحد يُمكن للإنسان العاقل أن يتّخذه, ألا وهو أنّ ما يحدث إنما بقوّة من الله.
عندما عاد تلاميذ يوحنّا إليه بما سمعوا وشاهدوا, ما تردّد لحظة في استنتاج الحقيقة من ذلك, ألا وهي أنّ يسوع هو المسيح المخلّص وهو ابن الله المتجسّد.
لن يوازي وقع الكلمات يوماً قوّة الأعمال. فقد أدرك المسيح ذلك كما نعيه نحن أيضاً, وكما يعرفه جيّداً صاحب متجر الزهور الذي يريدك دائماً أن تستعيض عن الكلمات بالأزهار.
لذلك أتت حياة يسوع الناصريّ مليئة بالأعمال ولا سيّما المُدهشة منها. فقُدرة الله بدت جليّة فيها, ويسوع الذي كان “يعمل أعمال أبيه” غدا أسطع صورة لحضور الله الفاعل في الكون.
وهكذا ظهر هو للكون إلهاً مُتجسّداً كلّيّ القدرة, وتجلّى ذلك حيث توقّعه الناس وحيث لم ينتظروه. فهنا ماء يتحوّل خمراً, وهناك أبرص يطهر, وهنالك شبكة فارغة تعجّ فجأة بالسمك الكبير… وهاك إنسان يمشي على الماء وخمس خبزات وسمكتان تطعمان الجموع الغفيرة… وتينة تيبس لساعتها, وشابّ ينفض عنه أكفان الموت ويقوم حيّاً.
هذه المعجزات لا تكوّن لائحة كاملة لما افتعله يسوع, وهي ليست ببرهان على قُدرة الله التي فيه فحسب, بل هي أيضاً بمثابة حافز لي ولك لكي نولي ثقة عمياء بالإله مصدر ذلك الحبّ الذي يُترجم قُدرة فائقة تشفي كلّ مرض وتُبدّد كلّ خوف.
يأوي كلّ منّا إلى فراشه وفي جعبته جمّ من الهموم تشاطره المرقد وتستيقظ معه ثانية في الصباح التالي.
ولن تنفكّ تنخُرُ منه العقل والقلب إلى أن يعي أنّه وتلكَ الهموم في يد الله الأمينة, وفي كنف رحمته اللامتناهية, وأنّ تلك اليد ستنبسط فوق همومه تماماً كما ارتفعت فوق عاصفة البحيرة فسكّنتها, ولامست قروح أبرص كفرناحوم فطهّرته.
ولكنّ ذلك يبقى مشروطاً في أن يتذكّر كلّ منّا كلام القدّيس بطرس في رسالته الأولى أن “ألقوا عليه جميع همّكم فإنّه يُعنى بكم”, وأن نصغي إلى يسوع نفسه يدعو كلّ مُتعبٍ بيننا, ومَن أنهكه ثقل الأحمال أن يأتوا إليه وهو يريحهم.
إنّه لا ينفكّ يقرع بابك وبابي كلّ يوم, فهلاّ مكّنتنا ثقتنا به من أن نسمع صوته ونفتح الباب فيدخل “ويتعشّى معنا ونتعشّى معه”, فيكسبنا غذاؤه نعمة جديدة تمكّننا من أن نواجه بكلّ ثقة وفرح هموم الدنيا ومتاعبها كافّة!
Discussion about this post