المنشود (للكنيسة) كلها – Optatam totius
قرار في “التنشئة الكهنوتية”
من الأسقف بولس، خادم خدّام الله، مع آباء المجمع المقدس، للذكرى الخالدة.
توطئة
إن المجمع المقدّس، إذ يعي تمام الوعي أن التجدد المنشود للكنيسة كلها يتعلّق إلى حد كبير بخدمة الكهنة، التي تحييها روح المسيح (1)، يعلن الأهمية الخطيرة للتنشئة الكهنوتية ويبيّن بعض المبادئ الأساسية التي تدعّم قوانينها التي أثبتت الأجيال قيمتها، وتدخل عليها عناصر جديدة تتجاوب مع دساتير هذا المجمع المقدّس وقرارته ومع ظروف الأزمنة المتغيرة. وهذه التنشئة الكهنوتية، نظراً لوحدة الكهنوت الكاثوليكي نفسها، ضرورية بالنسبة لجميع الكهنة، من الإكليروس الرهباني أو العلماني، أيا كان طقسهم. لذلك فإن القواعد التي تخص إكليروس الأبرشيات مباشرة، يجب تطبيقها على الجميع، مع الأخذ بعين الإعتبار التكيّفات الضرورية.
أولاً- يجب أن يكون لكل بلد منهاج للتنشئة الكهنوتية
1– نظراً الى تنوع الشعوب والبلدان، لا نستطيع ألا أن نسن شرائع عامة. ولكن، على كل شعب وكل طائفة، أن يتبنى منهاجاً خاصاً للتنشئة الكهنوتية تقره المجالس الأسقفية (2)، ويعاد النظر فيه على فترات معينة، ويوافق عليه الكرسي الرسولي: منهاج تتكيف به الشرئع العامة بالنسبة الى الأوضاع الزمانية والمكانية الخاصة، فتأتي تنشئة الكهنة ملائمة دوماً للحاجات الراعوية، النابعة من تلك المناطق التي سيمارسون خدمتهم فيها.
ثانياً– في تشجيع الدعوات الكهنوتية المستمر
2– إن واجب تشجيع الدعوات يقع على عاتق الجماعة المسيحية كلها (3)؛ ويجب أن تحث عليه أولاً بحياة مسيحية حقة. ولهذا فالعون الجزيل الفائدة، تقدمه العائلات التي ينفحها روح الإيمان والمحبة والتقوى، وقد أضحت بمثابة المدرسة الأكليريكية الأولى؛ عون تقدمه أيضاً تلك الرعايا التي تشرك الشبان أنفسهم في كل كنوز حياتها. فعلى المعلمين وكل الذين يهتمون بتربية الأولاد والشبان باي صفة كانت، ولا سيما المنظمات الكاثوليكية، أن يجتهدوا في توفير تربية المراهقين الذين أوكلوا إليهم، حتى يتمكنوا من سماع نداء الله والأجابة عليه بطيبة خاطر. وليبرهن كل الكهنة عن غيرة رسولية كبرى في مساعدة الدعوات، مجتذبين قلوب المراهقين نحو الكهنوت بحياتهم الشخصية المتواضعة النشيطة، التي يعيشونها بالفرح، وبمحبتهم الكهنوتية المتبادلة وتعاونهم الأخوي. وعلى الأساقفة أن يحثوا قطيعهم على إنماء الدعوات، ساهرين على إقامة الرباط الوثيق بين طاقات الجميع وجهودهم. كما أن عليهم أن يساعدوا كآباء، أولئك الذين يعتبرونهم مدعوين ليكونوا حصة الرب، غير آبهين للتضحيات من أي نوع كانت. إن تعاون شعب الله الفعال بأجمعه على تشجيع الدعوات يتجاوب وعمل العناية الإلهية، التي تعضد بالنعمة وتمنح المواهب الملائمة الأشخاص الذين يختارهم الله ليشتركوا في كهنوت المسيح التسلسلي. كما أن العناية هي التي تكلف خدمة الكنيسة الشرعيين، ليدعوا ويكرسوا بوسم الروح القدس طلاب الكهنوت، الذين أختبروا وأعتُرف بمؤهلاتهم، والذين يطلبون أن يمارسوا مهمة عظيمة كهذه بنية صادقة وحرية تامة (4). أجل إن المجمع المقدس يوصي، بادىء ذي بدء، بالوسائل التقليدية لكل تعاون، ألا وهي الصلاة بالحاح والتوبة المسيحية، أضف إليهما تنشئة المؤمنين تنشئة تتعمق يوماً بعد يوم، وتعطى سواء بالوعظ والتعليم المسيحي، أم بشتى وسائل النشر الإجتماعية، لتنجلي أمامهم ضرورة الدعوة الكهنوتية وطبيعتها وشرفها. فضلاً عن ذلك يأمر المجمع المؤسسات التي تعنى بشؤون الدعوات، والتي تأسست أو ستؤسس ضمن نطاق كل أبرشية أو منطقة أو بلد، وفقاً للوثائق البابوية التي صدرت في هذا المجال، إن تنظيم العمل الراعوية كله، لتشجيع الدعوات بطريقة منطقية متناغمة، دون أن تغفل أية مساعدة من المساعدات الموافقة، التي يوفرها بجزيل الفائدة علم النفس وعلم الإجتماع الحديث. كما أن عليها أن تنمي هذا العمل بالفطنة والغيرة عينها (5). أما العمل على تشجيع الدعوات، فيجب أن يتخطى بسخاء حدود كل أبرشية أو بلد أو رهبنة أو طائفة، آخذاً بعين الإعتبار حاجات الكنيسة جمعاء، ماداً يد المساعدة بنوع خاص الى تلك المناطق التي تتطلب بمزيد من الإلحاح، فعلةً لكرم الرب.
3– أما في الاكليريكيات الصغرى المشيدة لإنماء بذور الدعوة، فليتأهب التلامذة على إتباع المسيح الفادي بنقاوة قلب وسخاء، وذلك بتنشئة دينية خاصة يحتل فيها الإسترشاد الروحي المناسب مكان الصدارة. وليسلكوا تحت قيادة رؤسائهم الأبوية، وبالتعاون الموافق مع أهلهم، مسلكاً يليق بعمر الشبان وعقليتهم وتطورهم، وفقاً لقواعد نفسية صحيحة. وليحرصوا على أن يختبروا حياة الناس وشؤونهم إختباراً مناسباً محافظين على علاقاتهم بعائلاتهم الخاصة (6). فضلاً عن ذلك ، يجب أن تطبق أيضاً القواعد التالية المرسومة للاكليريكيات الكبرى على الاكليريكيات الصغرى، بقدر ما تتفق وغايتها ومنهاجها. ومن الواجب أن يتم تنظيم الدروس التي يجب أن يتبعها التلاميذ، بطريقة تمكنهم من متابعتهم في مكان آخر، دون أن يتأذوا، إذا ما توصلوا الى أن يختاروا حالة حياة أخرى. ولن يقل الإهتمام بالمحافظة أيضاً على بذور الدعوة عند المراهقين والشبان في تلك المؤسسات الخاصة التي، وفقاً للظروف المحلية، تبغي الغاية ذاتها التي تبتغيها الاكليريكيات الصغرى. وهذا ما نقوله أيضاً عن الذين يتربون في مدارس أخرى، أو في ظل أي نظام تربوي آخر. ولتبذل الجهود حثيثة لتنمية المؤسسات والمبادرات الأخرى المخصصة لأولئك الذين يتبعون دعوة الله وأن تقدموا في العمر.
ثالثاً- تنظيم الاكليريكيات الكبرى
4- إن الاكليريكيات الكبرى ضرورية لتنشئة الكهنة، ويجب ان تصبو تربية الطلاب الكاملة، إلى أن تجعل منهم رعاة حقيقيين للنفوس (7)، على مثال سيدنا يسوع المسيح المعلم والكاهن والراعي. فليتهيأوا اذاً لخدمة الكلمة ليفهموا دوماً كلام الله الموحى فهماً أعمق، مرتوين منه بالتأمل، ومعبرين عنه بكلامهم وتصرفاتهم. وليتهيأوا أيضاً لخدمة العبادة والتقديس ليحققوا عمل الخلاص بذبيحة الافخارستيا والاسرار بالقيام بصلواتهم والاحتفال باللتيورجيا المقدسة. وليتهيأوا كذلك للخدمة الراعوية، ليعلموا كيف يجعلون المسيح حاضراً بين الناس، الذي “لم يأت ليخدم بل ليخدم ويبذل ذاته فداء عن الكثيرين” (مرقس 10 / 45، يوحنا 13 / 12-17) ولكي يجعلوا ذواتهم خداماً للجميع ليربحوا منهم الكثيرين (1 كورنتس 9 / 19). لهذا السبب يجب ان تؤول متناسقة مقومات التنشئة كلها، من روحية وعقلية ونظامية ، الى هذا الهدف الرعائي. وعلى كل المدراء والاساتذة ان يعملوا جاهدين وبالاجماع، في سبيل هذه الغاية، خاضعين بأمانة لسلطة الاسقف.
5– ولما كانت تنشئة الطلاب منوطة بأنظمة حكيمة، وبنوع اخص بمربين كفوئين، فليتمّ اختيار مديري الاكليريكيات واساتذتها من بين نخبة الناس (8)، وليعدّوا إعدادا دقيقاً بتلقينهم العقيدة الراسخة، وبالاختيار الراعوي الموافق، وبتنشئة روحية وتربوية خاصة. وانه لمن الواجب انشاء معاهد توفر البلوغ الى هذا الهدف، او اقلّه ان تعطى دروس تنظّم بصورة مناسبة ، وان تعقد مؤتمرات دولية لمديري الاكليريكيات. غير ان على المديرين والاساتذة ان يتيقنوا من اهمية طريقة تفكيرهم وتصرفاتهم، التي يرتبط بها نجاح تنشئة الطلاب. وليؤلفوا بقيادة رئيسهم وحدة وثقى في التفكير والعمل مكوّنين في ما بينهم وبين الطلاب تلك العائلة التي تتجاوب وصلاة الرب: “ليكونوا واحداً” (يوحنا 17 / 11) وتغذّي عند الطلاب فرحهم بدعوتهم. فليعن الاسقف ايضاً وليشجع، اولئك الذين يكرسون جهودهم للاكليريكيات، اما بالنسبة الى الاكليريكيين انفسهم، فليظهرنّ حقاّ كأب لهم في المسيح. واخيراً فليعتبرن الكهنة جميعهم الاكليريكية، كقلب الابرشية، فيقدموا لها عن رضى مساعدتهم الشخصية (9).
6– كما انه من الواجب ايضاً، وفقاً لعمر الطلاب وتقدمهم، ان يتم البحث باهتمام كلي عن نيتهم المستقيمة وارادتهم الحرة ومؤهلاتهم الروحية والادبية والعقلية، وعن حالتهم الصحية والنفسية الملائمة، مع الأخذ بعين الاعتبار الاستعدادات التي يمكن ان تنقلها اليهم العائلة. ويجب ان تقدر طاقاتهم لتحمل المهام الكهنوتية، ولممارسة الواجبات الراعوية (10). اما في ما يتعلق بانتقاء الطلاب واختيارهم اللازم، فليبرهن المسؤولون دوماً عن الحزم الضروري، حتى وان يكن النقص في الكهنة مؤلماً (11). فالله لن يسمح بان تتعرض كنيسته لنقص في الخدمة، اذا منحت الدرجات لمن يستحقها. اما الذين لامؤهلات لهم، فليوجّهوا في الوقت المناسب وبطريقة ابوية، نحو مهمات اخرى ، شرط ان تقدم لهم المساعدة ليدركوا دعوتهم المسيحية وينخرطوا فرحين في رسالة العلمانيين.
7– و حيث لا تتمكن الابرشية الواحدة من تجهيز مدرستها الاكليريكية الخاصة تجهيزاً لائقاً، فلتنشأ وتعزّز في المنطقة او البلد، اكليريكيات مشتركة بين عدة ابرشيات، بغية تأمين التنشئة المتينة للطلاب، بمزيد من الفاعلية، لان التنشئة المتينة هي الشريعة السامية في هذا النطاق. ولتخضع الاكليريكيات الاقليمية او الوطنية لقوانين يحددها الاساقفة المتعلقة بهم (12)، بعد ان يصدق عليها الكرسي الرسولي. اما في الاكليريكيات التي يسجّل فيها ارتفاع في عدد الطلاب، فليقسم هؤلاء، كما يجب، الى فئات تضم عددأ اقل، وذلك للسهر على تنشئة كل فرد تنشئة شخصية عميقة، مع المحافظة على وحدة الادارة والتعليم.
رابعاً- العناية في ترسيخ التنشئة الروحية
8– على التنشئة الروحية أن ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالتنشئة العقائدية والراعوية، وأن تعطى على الاخص بمساعدة المرشد الروحي (13)، بطريقة تلقن الطلاب أن يعيشوا دائماً بدالة، متحدين مع الآب بابنه يسوع المسيح في الروح القدس. وبما أن الرسامة المقدسة ستجعلهم شبيهين بالمسيح الكاهن، فليتعوّدوا على أن يلازموه كاصدقاء في شركة حياتهم الحميمة كلها (14). ومن ثم عليهم ان يعيشوا سرّه الفصحي بطريقة تخولهم تعريف هذا السر إلى الشعب الذي يوكل إليهم. وليتعلموا أن يطلبوا المسيح في المثابرة على التأمل بكلام الله وفي الشركة الفعّالة في اسرار الكنيسة المقدسة، وبادئ ذي بدء في الافخارستيا والفرض الالهي (15). كما أن عليهم أن يطلبوا المسيح ايضاً في شخص الاسقف الذي يرسلهم ، وفي الناس الذين يرسلون اليهم، لاسيما الفقراء منهم والاولاد والمرضى والخطأة وغير المؤمنين. وعليهم أن يحبوا العذراء مريم ويكرموها بثقة بنوية، لأن يسوع المسيح أعطاها أماً لتلميذه، عندما كان ينازع على الصليب. يجب التشديد على تشجيع التمارين التقوية التي توصي بها ممارستها الجليلة في الكنيسة، ولكن يجب أن تبذل العناية كيلا تنحصر التنشئة الروحية في هذه التمارين فقط ، وألا تغذّي العاطفة الدينية وحدها. غير انه يجب على الطلاب ان يتعلموا كيف يعيشون حسب طريقة الإنجيل، موطدين على الإيمان والرجاء والمحبة ، فيكتسبوا روح الصلاة بممارستهم هذه الفضائل (16)، مقوّين دعوتهم ومحافظين عليها، ومترسخين في الفضائل الأخرى ، فينشأون غيارى على كسب جميع الناس الى المسيح.
9– وعلى الطلاب أن يرتووا أيضاً من سر الكنيسة، الذي عمل هذا المجمع على جلائه بنوع خاص، فيرتبطوا بنائب المسيح برباط المحبة البنوية والتواضع، ويتعلقوا بأسقفهم عندما يصبحون كهنة كمعاونيه الأمناء، ويشتغلون بالاشتراك مع إخوانهم، فيكونون بذلك شهوداً لتلك الوحدة التي تجذب الناس إلى المسيح (17). وليتعلموا أن يشتركوا في حياة الكنيسة جمعاء بقلب واسع متذكرين هذا الكلام الذي قاله القديس اغوسطينوس: “بمقدار ما يحب الواحد كنيسة المسيح، يحصل على الروح القدس” (18). وليفقه الطلاب بوضوح تام، أن السيطرة والأمجاد ليست من نصيبهم، لكنهم وقفوا حياتهم كلها لخدمة الله وللمهام الراعوية. ولتبذل عناية خاصة لإنماء الطاعة الكهنوتية فيهم وروح الفقر والتجرد عن الذات (19)، فيتعودوا على أن يرفضوا ، دون تردد، ما لا يليق وإن يكن جائزاً ، لابسين صورة المسيح المصلوب. ويجب أن يطلع الطلاب على المهام التي سيتحملونها، دون ان تخبأ عنهم صعوبة من صعوبات الحياة الكهنوتية. ولكن لا يقودنهم ذلك الى ان ينظروا فقط الناحية الخطرة من نشاطهم في المستقبل بل يجب اعدادهم بالاحرى قدر المستطاع ليرسخوا حياتهم الروحية على عملهم الراعوي نفسه.
10– أما الطلاب الذين يحافظون على التقليد الجليل، تقليد التبتل الكهنوتي، وفقاً للشرائع المقدسة التي لا يزال معمولاً بها في طقوسهم الخاصة، فلتبذل عناية جدية لتهيئتهم لاعتناق هذه الحالة التي يعدلون فيها عن الحياة الزوجية، لأجل ملكوت السماوات (متى 19 / 12) متعلقين بالرب بحب لا شريك فيه، مطابق للعهد الجديد مطابقة أصلية (20). وهكذا يكونون شهوداً للقيامة في العالم الآتي (لوقا 20 / 36) (21)، ويجدون بذلك عوناً قوياً، يسمح لهم بأن يمارسوا المحبة الكاملة دون توان، فيصبحون من جرائها كلاً للكل في خدمتهم الكهنوتية (22). وليدركوا إدراكاً عميقاً كيف يجب ان يعتنقوا هذه الحالة بقلب شكور، لا لانها فريضة تفرضها الشريعة الكنسية وحسب، بل كهنة ثمينة يجب ان يطلبوها من الله بتواضع، ويجتهدوا في أن يتلقوها بحرية وسخاء، بإلهام نعمة الروح القدس ومساعدتها. وعلى الطلاب ان يعرفوا معرفة صحيحة واجبات الزواج المسيحي وكرامته، اذ إنه يمثل حب المسيح والكنيسة المتبادل (راجع افسس 5 / 32). ولكن عليهم أن يدركوا أيضاً سمو البتولية المكرسة للمسيح (23)، فيتكرسوا للرب ببذل ذاتهم كلياً نفساً وجسداً، بإختيار ناضج بالتفكير والسخاء. ويجب أن يتنبهوا إلى المخاطر التي تعترض عفتهم، لا سيما المجتمع المعاصر (24). وليتعلموا ان يجعلوا من امتناعهم عن الزواج جزءاً مكملاً لحياتهم، بفضل المعونات الإلهية والإنسانية الموافقة، حتى لا تكون حياتهم ونشاطهم بمأمن من الأذى وحسب، من جراء تبتلهم، بل ليزدادوا سيطرة على جسدهم ونفسهم، ويكتسبوا مزيداً من النضج العميق، فيقبلوا بصورة أكمل السعادة الإنجيلية.
11– ولتحفظ بالتقوى نواميس التربية المسيحية، مكملة كما يجب بالاكتشافات الحديثة في علم النفس والتربية. فالتنشئة الموجهة توجيهاً رشيداً، يجب أن تغذي النضج الإنساني الضروري عند الطلاب. ومن أخص ميزات هذا النضج استقرار في الطبع، وقدرة على التقرير الرزين، وحكم سديد على الأحداث والناس. وليدأب الطلاب على ترويض طباعهم واكتساب قوة العريكة، وليتلقنوا بالإجمال تقدير تلك الفضائل التي يعتبرها الناس اعتباراً قوياً ، والتي تجعل خادم المسيح محترماً (25)، كالصدق والاهتمام المستمر بالعدالة والأمانة للالتزامات والتصرفات المهذبة والكلام المحب والمحتشم معاً.وفي حياة الاكليريكية، يجب إعتبار النظام لا مساعداً قوياً للحياة المشتركة والمحبة فحسب، بل جزءًا ضرورياً في مجمل التنشئة، بغية إكتساب السيطرة على الذات، وتنشيط النضج الشخصي المتين وسائر الميزات الخلقية التي تساهم مساهمة جليلة في نشاط الكنيسة المنظم والمثمر. غير أن هذا النظام يجب أن يمارس بطريقة تنمي في الطلاب الاستعداد الداخلي، الذي يجعلهم يقبلون سلطة الرؤساء عن إقتناع حميم، أي بالإستناد الى ضميرهم (روما 13 / 15) والى دوافع فائقة الطبيعة. علاوة على ذلك، فلتطبق قوانين هذا النظام وفقاً لعمر الطلاب: فبينا يتعلمون تدريجياً أن يديروا أنفسهم بأنفسهم، يعتادون على استعمال حريتهم استعمالاً حكيماً، ويعملون بنشاط وبديهياً متعاونين مع اخوانهم ومع العلمانيين (26). وليتشبع نمط الحياة الإكليريكية بحب التقوى والصمت والغيرة على التعاون، وليوجه توجيهاً يجعله تدريباً على الحياة التي سيعيشها الكاهن فيما بعد.
12– إنه يعود الى الأساقفة أن يحددوا الفترة الموافقة لتدريب روحي أعمق، لكي تتوطد التنشئة الروحية على أسس أشد رسوخاً فيعتنق الطلاب دعوتهم بعد إختيار فكروا فيه ملياً. ومن إختصاص الأساقفة أيضاً، أن يحكموا إذا كان موافقاً، أن ينقطعوا عن الدروس إنقطاعاً موقتاً وينظم لهم بعض التدريب الراعوي، الذي يسمح أن يمتحن طلاب الكهنوت إمتحاناً أوفى. ووفقاً لظروف المناطق، يعود إليهم كذلك، أن يقرروا هل من اللازم تأخير الحد الأدنى للدرجات المقدسة الذي يفرضه الحق القانوني حالياً، وإذا كان من الموافق أن الأكليريكيون، بعد نهاية دروسهم اللاهوتية، مهام الشماسية في مدة مناسبة قبل أن يدعوا الى الكهنوت.
خامساً- إعادة النظر في الدروس الكهنوتية
13- قبل أن يبدأ الطلاب بالدروس الكهنوتية بحصر المعنى، يجب أن تتوفر لهم التنشئة الأدبية والعلمية، التي تفسح لشبان بلادهم أن يصلوا الى الدروس العالية. علاوة على ذلك، فليكتسبوا معرفة اللغة اللاتينية التي تسمح لهم بأن يفهموا ويستعملوا مصادر الكثير من العلوم والوثائق الكنسية (27). ويجب أن يُعتبر أمراً ضرورياً درس اللغة الطقسية الخاصة بكل طائفة، كما يجب تشجيعهم كثيراً لتكون لهم معرفة كافية بلغات الكتاب المقدس والتقليد.
14– وفي بادىء الأمر، يجب أن تهدف إعادة النظر في الدروس الكهنوتية، الى أن يكون هناك إرتباط متزايد بين الفروع الفلسفية واللاهوتية، فتساهم متفقة في تفتح عقل الطلاب تفتحاً متزايداً على سر المسيح، الذي يهيمن على تاريخ الإنسانية كله، ولا يزال اثره فعالاً في الكنيسة، لا سيما من خلال الخدمة الكهنوتية (28). ولكي يعطى الطلاب هذه الرؤية منذ بدء تنشئتهم، يجب أن تبدأ الدروس الكهنوتية بدرس يعتبر مقدمة ويدوم وقتاً كافياً. وفي هذه المقدمة، فليُبسط سر الخلاص، بطريقة تظهر للطلاب معنى الدروس الكهنوتية وتنسيقها وغايتها الرعائية؛ فتساعدهم على توطيد حياتهم الشخصية كلها على الإيمان وإنعاشها به، وتثبتهم في دعوتهم التي عليهم أن يعتنقوها بتقدمة شخصية وقلب فرح.
15– ولتلقن المواد الفلسفية بطريقة تقود الطلاب، بادىء ذي بدء، الى الحصول على معرفة الإنسان والعالم والله، معرفة راسخة ومنسجمة، مستندين على الإرث الفلسفي الذي كان ولا يزال صحيحاً (29)، آخذين أيضاً بعين الإعتبار الأبحاث الفلسفية المتطورة، لا سيما تلك التي تترك أكبر الأثر في بلدانهم الخاصة، الى جانب التقدم العلمي الحديث. وهكذا، إذا ما تفهم الطلاب عقلية العصر تفهماً صحيحاً، أصبحوا معدين إعداداً موفقاً للحوار مع معاصريهم (30). يجب أن يلقن تاريخ الفلسفة بطريقة تمكن الطلاب، إذا ما توصلوا الى المبادىء الأخيرة للمذاهب المختلفة، من الإحتفاظ بما إختبروا حقيقته ومن إكتشاف جذور الضلال ودحضها. وليكن أسلوب التعليم نفسه حافزاً للطلاب، ليحبوا الحقيقة، التي يجب أن يبحثوا عنها ويدققوا فيها ويبرهنوا عنها، معترفين مع ذلك بكل صدق بحدود المعرفة البشرية. كما أنه يجب الإنتباه كلياً الى الصلة بين الفلسفة وبين مشاكل الحياة الحقيقية، لا سيما المسائل التي تشغل بال الطلاب. ويجب مساعدتهم ليكتشفوا الإرتباطات القائمة بين الأدلة الفلسفية وأسرار الخلاص، التي يدرسها علم اللاهوت، إستناداً الى نور الإيمان العلوي.
16– أما المواد اللاهوتية، فليتم تدريسها على نور الإيمان وتحت إشراف سلطة الكنيسة التعليمية (31)، حتى ينهل الطلاب بإهتمام العقيدة الكاثوليكية من الوحي الالهي، فيرتووا منها إرتواء عميقاً، وتكون الغذاء لحياتهم الروحية الخاصة (32) فيستطيعون عندئذ أن يعلنوها ويعرضوها ويدافعوا عنها في خدمتهم الكهنوتية. ولتُبذل عناية خاصة ليتلقن الطلاب درس الكتاب المقدس، الذي يجب أن يكون بمثابة الروح لعلم اللاهوت بأجمعه (33)، فبعد مدخل مناسب، فليتأهبوا بدقة على اسلوب شرح الكتاب المقدس متوقفين على المواضيع الأهم في الوحي الإلهي، متخذين من قراءة الأسفار المقدسة والتأمل فيها يومياً (34)، الغذاء والتشجيع.
أما اللاهوت العقائدي، فليشرح وفقاً لتصميم يعرض أولا مواضيع الكتاب المقدس نفسها. ثم تتوضح للطلاب مساهمة آباء الكنيسة الشرقية والغربية، في نقل كل حقيقة من حقائق الوحي وشرحها. وهذا ما يجب إتباعه فيما بعد في تاريخ العقيدة، آخذين أيضاً بعين الإعتبار ما له من علاقة بتاريخ الكنيسة العام (35). وليتعلم الطلاب أن يلجوا أسرار الخلاص بواسطة التحليل العقلي، متخذين القديس توما معلماً لهم، وذلك ليستوضحوها كاملة قدر المستطاع ويكتشفوا إرتباطاتها (36). وليتعلموا أيضاً أن يتبينوا هذه الأسرار عينها، التي لا تزال حاضرة وفعالة في الأعمال الطقسية (37) وفي حياة الكنيسة كلها؛ وليبحثوا عن الحلول للمشاكل البشرية على ضوء الوحي، مطبقين هذه الحقائق الأزلية على أوضاع الواقع البشري المتقلبة، فينقلوها الى معاصريهم بصورة مناسبة (38). وهكذا يجب أن تتجدد أيضاً سائر المواد اللاهوتية، بإحتكاك أكثر حيوية بسر المسيح وتاريخ الخلاص. ولتُصرف عناية بالغة لإكمال اللاهوت الأدبي. لأن العرض العلمي لهذه المادة، إذا ما تشبعت من تعليم الكتاب المقدس، يبين بوضوح عظمة دعوة المؤمنين في المسيح، وواجبهم في أن يثمروا في المحبة لأجل حياة العالم. وكذلك في تعليم الحق القانوني والتاريخ الكنسي، يجب الرجوع الى سر الكنيسة وفقاً للدستور العقائدي “نور الأمم” ، الذي أعلنه هذا المجمع. أما الطقسيات المقدسة، فيجب أن تُدرس وفقاً لروح البند 15 و 16 من الدستور في الليترجيا المقدسة لأنه يجب إعتبارها مصدراً أولياً وضرورياً لروح مسيحية حقة (39). مراعاةً للظروف الخاصة في المناطق المختلفة، فليتأهب الطلاب ليحصلوا على معرفة أعمق للكنائس والجماعات الكنسية المنفصلة عن الكرسي الرسولي الروماني، وذلك ليتمكنوا من المساهمة في إعادة الوحدة بين كل المسيحيين، وفقاً لأوامر هذا المجمع (40). كما أنه يجب أن ينفتحوا على معرفة سائر الديانات المنتشرة على الأخص في هذه المنطقة أو تلك، فيكتشفوا بمزيد من الوضوح ما تحويه هذه الديانات، بتدبير إلهي، من حقيقة وصلاح، فيتلقنوا دحض أضاليلها ويستطيعوا نشر نور الحقيقة الكامل لمن لم يحصلوا عليها.
17– وبما أن التنشئة العقائدية يجب ألا تهدف الى إعطاء المعلومات وحسب، بل الى تثقيف الطلاب تثقيفاً حقيقياً وباطنياً، لذلك يجب إعادة النظر في أساليب التعليم، سواء لتنظيم الدروس والأحاديث والتمارين العملية أو لحث الطلاب على الشغل أفرادياً أم في فئات صغيرة. غير أنه يجب السهر التام على وحدة التنشئة ورسوخها، لتجنب الإكثار من المواد والدروس ولإهمال المسائل التي لم يعد لها من اهمية، أو التي يجب تأجيلها الى الدروس الجامعية العليا.
18– ويعود للأساقفة أن يهتموا بأن يرسلوا إلى المعاهد المختصة وإلى الكليات والجامعات، الشبان الذين يتحلون بالأخلاق والفضيلة والذكاء، فيهيئون، في العلوم المقدسة لا سيما في العلوم التي تبدو موافقة، كهنة يستطيعون أن يجابهوا إحتياجات الرسالة المتنوعة، لأنهم حصلوا على تنشئة علمية أكثر تعمقاً. ولكن يجب ألا تهمل تنشئتهم الروحية والرعائية، خاصة إذا كانوا لم يصبحوا كهنة بعد.
سادساً- إنماء التنشئة الراعوية بحصر المعنى
19- إن الإهتمام الرعائي البالغ الذي يجب أن ترتوي منه تنشئة الطلاب كلها (41)، يقضي أيضاً بأن يطلعوا بدقة على كل ما له علاقة بالخدمة المقدسة بصورة خاصة: منها التعليم المسيحي والوعظ والعبادة الطقسية ومنح الأسرار وأعمال المحبة وواجب الذهاب الى من هم في الضلال أو الكفر دون اعفال سائر المهام الرعائية. ويجب تدريبهم بدقة على فن إرشاد النفوس، إذ يستطيعون به أن يربوا جميع أبناء الكنيسة ليحيوا أولاً حياة مسيحية تفيض وعياً وروحاً رسولية ويتمموا واجباتهم. وليتدربوا أيضاً على مساعدة الرهبان والراهبات ليثبتوا في نعمة دعوتهم الخاصة، وأن يتقدموا وفقاً لروح مؤسساتهم المتنوعة (42). وبالإجمال، يجب أن ينمي الطلاب المؤهلات التي تبدو في بالغ الأهمية لقيام الحوار مع الناس، كالقدرة على الإصغاء الى الآخرين والإنفتاح بروح المحبة على أوضاع العلاقات البشرية المتنوعة (43).
20– ويجب تعليمهم أيضاً إستعمال المعونات التي يمكن أن تقدمها العلوم التربوية والنفسية والإجتماعية (44)، وفقاً للاساليب الصحيحة ولتوجيهات وقوانين السلطة الكنسية. ويجب إعدادهم إعداداً دقيقاً لكي يحثوا العلمانيين على العمل الرسولي ويعضدوه (45)، لا سيما كي ينشئوا أشكالاً متنوعة للرسالة تكون أكثر فاعلية. وليرتووا من ذلك الروح الكاثوليكي الحق الذي يتمرسون به، على أن يتجاوزوا حدود أبرشيتهم ووطنهم وطقسهم الخاص، ليسدوا حاجات الكنيسة كلها، مستعدين من أعماق القلب ليبشروا بالإنجيل في كل مكان (46).
21– ولما كان من الضروري أن يتمرس الطلاب على فن الرسالة لا بصورة نظرية وحسب، لأنهم بحاجة الى أن يتعلموه عملياً لذلك عليهم أن يبدأوا بممارسة الرعائيات، من خلال إختبارات مؤاتية أثناء دراستهم واثناء عطلتهم. غير أن هذه الإختبارات، يجب أن تتناسب وعمرهم والأوضاع المحلية، بعد الوقوف على رأي أساقفتهم الرشيد. ويجب أن تتم بطريقة منهجية تحت إشراف أناس لهم خبرة في الحقل الراعوي، مع التذكير الدائم بسمو الوسائل الفائقة الطبيعة (47).
سابعاً- تكملة التنشئة بعد إنهاء الدروس
22- ولما كان من الواجب متابعة التنشئة الكهنوتية وإكمالها، لا سيما في أوضاع المجتمع الحالي، بعد الإنتهاء من دورة الدروس في الإكليريكيات (48)، فللمجالس الأسقفية أن تضع في كل بلد الوسائل الأنسب، من معاهد رعائية مثلاً، تعمل باتصال مع رعايا يتم إختيارها بصورة ملائمة، ومن لقاءات دورية وتمارين موافقة. كل ذلك يساعد الأكليروس الطالع، على أن يندمج تدريجياً في الحياة الكهنوتية والنشاط والعمل الرسولي من الناحية الروحية والفكرية والرعائية، فيتمكن هكذا يوماً بعد يوم من تجديد وتعزيز هذه الحياة وهذا النشاط.
خاتمة
إن آباء هذا المجمع المقدس، إذ يتابعون العمل الذي بدأ به المجمع التريدنتي ويولون ثقتهم لمديري الأكليريكيات وأساتذتها، الذين يكلفونهم بتنشئة كهنة المسيح الطالعين، وفقاً لروح التجديد الذي أراده هذا المجمع المقدس، يحضون بقوة أولئك الذين يستعدون للخدمة الكهنوتية، على أن يقتنعوا تمام الإقتناع، بأن أمل الكنيسة وخلاص النفوس يقع على عاتقهم؛ ويحضونهم أيضاً على أن يتقبلوا عن رضى القوانين التي رسمها هذا المرسوم، حتى يحملوا ثماراً وفيرة وتدوم إلى الأبد.
Discussion about this post