بشارة زكريّا
إنجيل القدّيس لوقا 1/1-25
الليتورجيّا الينبوع والقِمّة
مع بشارة الملاك لزكريّا، يبدأ زمن المجيء الاستعداديّ لميلاد الربّ يسوع. عندما كان زكريّا الكاهن يمارس خدمة الكهنوت، بتقديم البخور في هيكل الربّ، تمّ اللقاء مع الله من خلال جبرائيل الملاك. الليتورجيّا أداة اللقاء بين الله والانسان المؤمن، يوحي إليه تصميمه ، ويكشف عن إرادته وعن دور الانسان في هذا التصميم الالهيّ، وينتظر منه جواب الايمان.
أوّلاً- مضمون لوحة البشارة
1– معنى بشارة الملاك لزكريّا وأبعادها
البشارة هي نقل خبر مفرح عن تدخّل الله في التاريخ من ضمن تدبيره الخلاصيّ. ثلاث بشارات رسمت حدود تاريخ الخلاص: البشارة لابراهيم بمولد اسحق (تك 17/15-22) الذي من صلبه يولد أسباط شعب الله الاثنا عشر، وهؤلاء من خلالهم تسير كلمة الله الواعدة بالخلاص إلى تحقيقها. البشارة لزكريّا بمولد يوحنّا المعمدان الذي يختتم مسيرة شعب الله، كآخر نبيّ منه، ويفتتح، كالفجر قبل انبلاج الصباح، مسيرة شعب الله الجديد، ويوحنّا فيه أوّل رسول. البشارة لمريم بمولد المسيح الفادي، الذي يبلغ معه ملء الزمن، ويبدأ شعب الله الجديد الذي هو الكنيسة، منفتحًا نحو نهاية الأزمنة.
الإنجيل، بمعناه اللفظيّ، يعني البشارة السارّة الموجّهة الى كلّ إنسان من شعوب الأرض، أيًّا كان دينه أو عرقه أو ثقافته. إنّه كتاب مفتوح تُكتب على صفحاته البيض تدخّلات الله في حياة الأفراد والجماعات.
ليس الانجيل كتابًا جامدًا كأنّه يحمل خبرًا من الماضي منتهيًا فيه، بل يحمل خبرًا من الماضي هو في أساس الايمان، وتحقيق في الحاضر لمضمون هذا الايمان. فالمسيح إيّاه الذي «هو هو الأمس واليوم وإلى الأبد» (عبرانيين 13/8)، يحقّق الآن ما حقّقه في الحدث المؤسّس. كلّ الأشخاص والأمكنة تتبدّل، لكنّه هو وحده يبقى ويحقّق، في كلّ إنسان وزمان ومكان، الخلاص بمختلف ألوانه وأشكاله وأشخاصه، إلى أن يكتمل تاريخ الخلاص بنهاية التاريخ حسب تصميم الله: «ربِّ، أت في البدء أسّست الأرض، والسماوات صنع يديك. هي تزول وأنت تبقى، وكلّها كالثوب تبلى، وطيَّ الرداء تطويها وكالثوب تتبدّل، وأنت أنت وسنوك لا تنتهي» (عبرانيين 1/10-12).
كان مبتغى زكريّا وإليصابات أن يرزقا ولدًا. فاستجاب الله صلاتهما (لو 1/13). «ولكونهما بارَّين أمام الله وسالكين في جميع وصايا الربّ وأحكامه بلا لوم» (لو 1/6)، بشرّهما بولد، إنّما البشرى للشعب كلّه الذي ينتظر المخلّص والذي سيعدّه يوحنّا لقبول الخلاص: «ستلقى فرحًا وابتهاجًا، ويفرح بمولده أناس كثيرون» (لو 1/14). ويصف الملاك لزكريّا رسالة يوحنّا التي هي مضمون البشرى للشعب كلّه (أنظر لوقا 1/15-17). الكلام نفسه سيقوله الملاك للرعاة عند ميلاد يسوع: «ها إنّي أبشّركم بفرح عظيم يكون للشعب كلّه: ولد لكم اليوم مخلّص، هو المسيح الربّ» (لو 2/10).
كلّ ولادة طفل إنّما تندرج في خطّ البشارات المفرحة، وتتعدّى الشخص وأسرته إلى المجتمع الأوسع: «أولادكم ليسوا لكم، أولادكم أبناء الحياة» (جبران خليل جبران، النبيّ). وهكذا، كلّ مهمّة تُسند لانسان.
«بكم زكريّا» الذي «لم يؤمن بأقوال الملاك التي ستتمّ في أوانها» (لو 1/20)، ليس مجرّد قصاص إلهيّ على عدم الايمان، بل هو علامة للشعب عن حدوث الرؤيا والبشارة، ودعوة لزكريّا وزوجته وللشعب إلى التأمّل بصمت ورجاء في تدخّل الله وفي تصميمه وإرادته الخفيّة، وإلى انتظار تحقيق الوعد: «ها أنت تكون صامتًا لا تقدر أن تتكلّم حتّى اليوم الذي يحدث فيه ذلك» (لو 1/20).
الصمت وسيلة أساسيّة لسماع صوت الله في القلب، وللتأمّل في أسراره. نصمت ليتكلّم الله، ليتدخّل، ليوحي، فنسمع ونمجّد ونشكر: «كونوا في السّكوت أيّها السامعون، فإنّ الانجيل المقدّس يتلى الآن عليكم. فاسمعوا ومجّدوا واشكروا كلمة الله الحيّ!» الصمت يشمل حالة الآلم والفقر والحزن، والله يخاطبنا من خلال هذه الحالات.
2- الليتورجيّا والبشارة لزكريّا
«فيما كان زكريّا الكاهن يقوم برتبة البخور في الهيكل، تراءى له ملاك الربّ من عن يمين مذبح البخور» (لو 1/10). الليتورجيّا هي الوسيلة التي فيها يتمّ لقاء الله بالانسان، وعمل الخلاص بالمسيح الذي هو الوسيط الوحيد بين الله والبشر (1 تيم 2/5): فهو يعلن البشرى ويشفي القلوب المنسحقة (أشعيا 61/1؛ لو 4/18)، كطبيب للأجساد والأرواح (القدّيس اغناطيوس الأنطاكيّ).
الليتورجيّا هي فعل العبادة لله، الحاضر هنا: يكلّمنا عندما نقرأ كتبه المقدّسة؛ يلهمنا بأنوار روحه القدّوس، يخاطب قلوبنا عندما نصغي إليه بتأمّل وصمت. في هذا الجوّ كلّم الله زكريّا بواسطة جبرائيل الملاك. لا يستطيع إنسان أن يلتقي الله في العقل والقلب إلاّ بواسطة أفعال العبادة، المعروفة بالليتورجيّا. فالله حاضر في الجماعة المصلّية، على ما قال الربّ يسوع: «حيث يجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، أكون هناك بينهم (متّى 18/20) (أنظر الدستور المجمعيّ في الليتورجيّا، 7).
الارشاد الرسوليّ: «رجاء جديد للبنان» يؤكّد تعليم الكنيسة الدائم: أنّ الليتورجيّا هي «ينبوع حياة وعمل الكنيسة وقمّتهما» (عدد 42؛ دستور الليتورجيّا،10). ويؤكّد أنّها هي التي حفظت الكنيسة والكنائس الشرقيّة صامدة في الرجاء على مدى أجيال المحن والمصاعب (العدد نفسه). واعتبرها، إلى جانب كلام الله والتقليد، من ينابيع التجدّد في الكنيسة وثماره (أنظر الفصل الثالث، 39-42).
المجمع البطريركيّ المارونيّ بدوره، الذي خصّص الملفّ الثاني من ملفّاته الأربعة «للتجدّد الراعويّ والروحيّ في الكنيسة المارونيّة وفي الهيكليّات»، جعل الليتورجيّا أوّل المجالات الراعويّة التي يتمّ فيها التجدّد، ومنها ينطلق، وبها تتحقّق وحدة أبناء الكنيسة أينما وجدوا، وبواسطتها يعاش التضامن والترابط بأواصر المحبّة والتعاون (أنظر النصّ 12: الليتورجيّا).
نقرأ في الدستور المجمعيّ «في الليتورجيّا»: تدفع الليتورجيّا بالمؤمنين، وقد امتلأوا من أسرار الله، لأن يكونوا واحدًا في التقوى، ويحفظوا في حياتهم اليوميّة ما قبلوا بالايمان؛ وتشعل في قلوبهم، وقد تجدّدوا في الافخارستيّا وعهد الربّ مع البشر، محبّة المسيح الملحّة بعضهم نحو بعض؛ وتفيض عليهم من الافخارستيّا، كمن ينبوع، النعمة الالهيّة التي تقدّسهم بالمسيح، فيتمجّد الله الذي يبحثون عنه كغايتهم الأخيرة (عدد10).
***
ثانيًا، الخطّة الراعويّة
الاستعداد للميلاد مسيرة تجدّد في حياة الأشخاص، وفي العائلة، وفي الرعيّة، في الجماعة الرهبانيّة، في المؤسّسة، وفي المنظّمات الرسوليّة. الليتورجيّا هي الوسيلة بامتياز لهذا التجدّد. تقتضي الخطّة الراعويّة: التعمّق في مفهوم الليتورجيّا، وتنشيط المشاركة فيها، انطلاقًا من الافخارستيّا التي هي «الينبوع والقمّة». إنّه الموضوع الذي التأمت حوله الجمعيّة العاديّة الحادية عشرة لسينودس الأساقفة الرومانيّ برئاسة قداسة البابا بندكتوس السادس عشر (2-23 تشرين الأوّل 2005)؛ والكنيسة تنتظر إرشادًا رسوليًّا يحمل توصيات هذه الجمعيّة.
يدور التشاور حول الواقع الليتورجيّ: مدى إدراك مفهوم الليتورجيّا عندنا، عند الكبار والصغار وبخاصّة الشبيبة، ومعرفة أسباب التراجع في المشاركة عند الغائبين، وأسباب عدم الفاعليّة في الحياة الروحيّة والمسلك الخلقيّ عند المشاركين.
ويصار إلى إيجاد حلول لكلا الأمرين: التثقيف الليتورجيّ، والمشاركة الشاملة والفاعلة.
يوصي المجمع البطريركيّ المارونيّ:
أ- بتنشئة المؤمنين الليتورجيّة في الرعايا إلى جانب التعليم المسيحيّ وإتقان الأعمال الليتورجيّة، وشرح رموزها، لكي يتمكّن المؤمنون والمؤمنات من المشاركة الواعية والفعّالة فيها.
ب- بتحضير الأهل والعرّابين لسرّ المعموديّة والميرون، والأطفال ووالديهم للمناولة الأولى، والمخطوبين لسرّ الزواج وقدسيّة العائلة وكرامتها ورسالتها، والمرضىلسرّ مسحة المرضى التي تقدس الأوجاع وتشفي نفسًا وجسدًا ، والمنازعينللمثول أمام رحمة الله عبر الموت.
تقوم الخطّة الراعويّة على عمليّة تحسيس بهذا الأسبوع، وعلى الالتزام بها في الحياة الرعائيّة والعائليّة والجَماعيّة والاجتماعيّة.
صلاة
أيّها الكلمة الاله الذي لا أمرٌ عسير عنده، والذي ينعش في القلوب الآمال المائتة، ويهب الرجاء من لا رجاء لهم، امنحنا أن نتفهّم تدابيرك، وندرك أسرارك. ثبّت قلوبنا على الايمان، فلا تقلق. وأهّلنا أن نعظّم محبّتك التي بها خلصتنا، ونرفع إليك المجد وإلى ابنك وروحك القدّوس إلى الأبد. آمين.
Discussion about this post