رسالة البابا فرنسيس بمناسبة اليوم العالمي الرابع للصلاة من أجل العناية بالخليقة
بمناسبة اليوم العالمي الرابع للصلاة من أجل حماية الخليقة وجّه قداسة البابا فرنسيس ظهر اليوم السبت رسالة كتب فيها أيها الاخوة والاخوات الأعزاء! أرغب أولاً في يوم الصلاة هذا أن أشكر الرب على هبة البيت المشترك وعلى جميع البشر ذوي الإرادة الصاحة الملتزمين بحراستها. أنا ممتن أيضا للمشاريع العديدة التي تهدف لتعزيز الدراسة ولحماية الأنظمة البيئية، وللجهود الموجهة لتطوير زراعة أكثر استدامة وأنظمة غذائية أكثر مسؤوليّة، ولجميع المبادرات التربوية، والروحية والليتورجية التي تُلزم في عناية الخليقة العديد من المسيحين في جميع انحاء العالم.
علينا أن نعترف بهذا الأمر: لم نعرف كيف نحرس الخليقة بمسؤولية. لا يمكن اعتبار الوضع البيئي على الصعيد العالمي كما في عدة مناطق معينة وضعا مرضياً. ولذلك ظهرت ضرورة علاقة متجددة وسليمة بين البشرية والخليقة، والقناعة بأن وحدها الرؤية الحقيقية والمتكاملة للإنسان ستسمح لنا بالاعتناء بشكل أفضل بكوكبنا لصالح الأجيال الحاضرة والمستقبلة، لأنه “لا وجود لإيكولوجية بدون أنتروبولوجية ملائمة” (الرسالة العامة، كن مسبحاً، عدد ١١٨).
في هذا اليوم العالمي للصلاة من أجل العناية بالخليقة، الذي تحتفل به الكنيسة الكاثوليكية منذ بضع سنوات بالاتحاد مع الإخوة والأخوات الأرثوذكس ومشاركة كنائس وجماعات مسيحة أخرى، أرغب في لفت الانتباه إلى موضوع المياه، عنصر بسيط جدًا وثمين ولكنّ الحصول عليه هو للأسف صعب بالنسبة لكثيرين ما لم يكن مستحيلا أيضا. مع ذلك “الحصول على مياه الشرب السليمة هو حق جوهري وعالمي وأساسي من حقوق الإنسان، لأنه يحدد بقاء الأشخاص على قيد الحياة، ولهذا فهو شرط لممارسة الحقوق الإنسانيّة الأخرى. إن هذا العالم عليه دَين اجتماعي خطير تجاه الفقراء الذين لا تصلهم مياه الشرب، لأن هذا يعني حرمانهم من الحق بالحياة، ذاك الحق المتأصل في كرامتهم غير القابلة للمساومة” (المرجع، عينه، عدد٣٠).
تدعونا المياه للتأمُّل حول أصولنا. إن الجسم البشري مكونٌ بأغلبيّته من المياه، والعديد من الحضارات في التاريخ قد نشأت بقرب مجاري مياه كبيرة طبعت هويّتها. موحية هي الصورة التي استُعملت في بداية سفر التكوين، حيث يُقال إن روح الخالق كان في البدء “يَرِفُّ عَلَى وَجْهِ المِيَاهِ” (تك ١، ٢).
وإذ أُفكِّر بدورها الأساسي في الخلق وفي النموِّ البشري، اشعر بالحاجة لرفع الشكر إلى الله على “أختنا المياه”، البسيطة والنافعة والأكثر أهميّة للحياة على الأرض. لذلك فالعناية بالينابيع والخزانات المائيّة هو أمر مُلِحّ. واليوم، أكثر من أي وقت مضى تُطلب نظرة تتخطّى الفوري (راجع “كُن مُسبّحًا، عدد ٣٦)، تتخطّى “معيارًا نفعيًا يقوم على الفعّالية والإنتاجيّة من أجل الربح الفردي” (المرجع عينه، عدد ١٥۹). وبالتالي هناك حاجة لمشاريع مشتركة وتصرّفات ملموسة، آخذين بعين الاعتبار أن كلَّ خصخصة للخير الطبيعي للمياه تكون على حساب الحقّ الإنساني في الحصول عليها هي غير مقبولة.
تُشكّل المياه بالنسبة لنا نحن المسيحيين عنصرًا أساسيًّا للتطهير والحياة. يتوجّه الفكر فورًا إلى المعموديّة، سرُّ ولادتنا الجديدة. فالماء المقدّس من الروح القدس هو المادة التي من خلالها أحيانا الله وجدّدنا، إنها الينبوع المبارك لحياة لن تموت أبدًا. تمثل المعموديّة أيضًا، لمسيحيي مختلف الطوائف، نقطة انطلاق حقيقيّة ولا يمكن التخلّي عنها من أجل عيش أخوّة حقيقيّة خلال المسيرة نحو الوحدة الكاملة. لقد وعد يسوع خلال رسالته بماء قادر على إرواء عطش الإنسان للأبد (راجع يوحنا ٤، ١٤)، وقد تنبّأ قائلاً: “إِن عَطِشَ أَحَدٌ فليُقبِلْ إِلَيَّ” (يوحنا ٧، ۳٧). إنَّ الذهاب إلى يسوع والارتواء منه، يعني الالتقاء به شخصياً كربٍّ، مستقين من كلمته معنى الحياة. لتتردد في داخلنا بقوة تلك الكلمات التي تلفظ بها على الصليب “أنا عطشان” (يوحنا ١۹، ٢٨). طلب الرب مرة جديدة أن يُروى عطشُه، إنه عطشان إلى المحبة. إنه يطلب منا أن نسقيه من خلال العديد من العطاش اليوم، ليقول لنا “عطشتُ فسقيتموني” (متى ٢٥، ۳٥) أن نسقي الأشخاص في القرية المعولمة، لا يتطلب فقط أعمالا شخصية من المحبة، بل يحتاج إلى خيارات ملموسة والتزاماً مثابراً من أجل ضمان هذا الخير الأساسي للجميع، أي المياه.
أود التطرق أيضا إلى مسألة البحار والمحيطات. من الواجب أن نرفع الشكر للخالق على العطية العظيمة والرائعة للمساحات الكبيرة من المياه وما تحتويه (راجع تكوين ١، ٢٠- ٢١؛ مزمور ١٤٦، ٦) ونسبحه لأنه كسى الأرض بالمحيطات (راجع مزمور ١٠٤، ٦) إن توجيه أفكارنا نحو المساحات البحرية الشاسعة، المتحركة باستمرار، يشكل بطريقة ما فرصة للتفكير بالله، الذي يرافق خليقته دوماً ويجعلها تسير قدماً محافظاً على وجودها (راجع يوحنا بولس الثاني، المقابلة العامة، ٧ أيار مايو ١۹٨٦).
إن الحفاظ يومياً على هذا الخير الذي لا يقدّر بثمن يشكل اليوم مسؤولية لا مفر منها، وتحدياً بكل ما للكلمة من معنى: ثمة حاجة إلى تعاون فعلي بين الأشخاص ذوي الإرادة الصالحة كي يتعاونوا في العمل المتواصل للخالق. تضمحل العديد من الجهود وللأسف نظرا لغياب التشريعات والمراقبة الفعلية، خصوصاً فيما يتعلق بحماية المناطق البحرية خارج الحدود الوطنية (راجع كُن مسبَّحًا، ١٧٤). لا يمكن أن نسمح للبحار والمحيطات بأن تمتلئ بمساحات من اللدائن العائمة والتي لا تتحلل. وإزاء هذا الوضع الطارئ نحن مدعوون للالتزام، بذهنية فاعلة، مصلّين كما لو كان كل شيء يعتمد على العناية الإلهية وعاملين كما لو كان كل شيء يعتمد علينا.
لنصلِّ لكي لا تكون المياه علامة فصل بين الشعوب، وإنما علامة لقاء للجماعة البشريّة. لنصلِّ لكي يُحفظ من يخاطر بحياته على الأمواج بحثًا عن مستقبل أفضل. لنطلب من الرب ومن الذين يقومون بالخدمة السياسيّة السامية أن تُواجه المسائل الحساسة في عصرنا، كتلك المتعلِّقة بالهجرات والتغيّرات المناخيّة وحقّ الجميع في الاستفادة من الخيور الأولية، بمسؤوليّة وتبصُّر بالنظر إلى الغد بسخاء وروح تعاون لاسيما بين البلدان التي تملك إمكانيات أكبر. لنصلِّ من أجل الذين يتكرّسون لرسالة البحر والذين يساعدون على التأمّل حول المشاكل التي تصبُّ فيها الأنظمة البيئيّة البحريّة، ومن أجل الذين يساهمون في سنِّ وتطبيق القوانين الدوليّة المتعلِّقة بالبحار والتي بإمكانها أن تحمي الأشخاص والبلدان والخيور والموارد الطبيعيّة – أفكّر على سبيل المثال بالحيوانات والنباتات البحرية كذلك بالشعاب المرجانيّة (راجع المرجع عينه، عدد ٤١) أو بقاع البحر – وتضمن تنمية متكاملة في سبيل الخير المشترك للعائلة البشريّة بأسرها ولا لمصالح خاصة. نذكر أيضًا الذين يجتهدون من أجل حراسة المناطق البحريّة وحماية المحيطات وتنوُّعها الحيوي لكي يقوموا بمهمّتهم هذه بمسؤوليّة وصدق.
وختامًا، لنحمل في قلوبنا الأجيال الشابة ولنصلِّ من أجلها لكي تنمو في معرفة البيت المشترك واحترامه والرغبة في الاعتناء بخير المياه الأساسي لصالح الجميع. وأتمنى أن تساهم الجماعات المسيحيّة أكثر فأكثر وبشكل ملموس لكي يتمكّن الجميع من الاستفادة من هذا المورد الضروري في حراسة تحترم العطايا التي نلناها من الخالق لاسيما مجاري المياه والبحار والمحيطات.
Discussion about this post