كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
في أخصّ فضائل العذراء مريم
الفضيلة العاشرة: في الصلاة
أنه ما وجدت قط على الأرض نفسٌ نظير مريم البتول أتبعت بدرجاتٍ ساميةٍ كاملةٍ تعليم مخلصنا العظيم: في أنه يلزم أن تصير الصلاة كل حينٍ من دون إهمالٍ: (لوقا ص18ع1) على أنه يقول القديس الفقديس بوناونتورا:” أننا لا نستطيع أن نتخذ النموذج من أحدٍ، ونفهم إلتزامنا وإحتياجاتنا إلى الثبات على الصلاة، أفضل مما نتخذ ذلك من العذراء المجيدة”. لأن الطوباوي ألبارتوس الكبير يشهد لنا: بأن هذه الأم الإلهية قد وجدت في فضيلة الصلاة هي الأكمل من كل ما سواها بعد يسوع المسيح، من الذين عاشوا في الأرض ومن العتيد وجودهم حتى يوم القيامة. وذلك:
أولاً: لأن صلاتها كانت متواترةً بإتصالٍ وبثباتٍ. على أن هذه السيدة منذ الدقيقة الأولى التي فيها خلقت نفسها البريئة من الدنس. ومعاً قد فازت وقتئذٍ بمعرفةٍ كاملة لتمييز الخير من الشر (حسبما برهنا في بدء الجزء الثاني للفصل الثاني من المقالة الأولى من هذا القسم الثاني وجه 360) فهي منذ الدقيقة المذكورة أبتدأت بأن تمارس فضيلة الصلاة.*
ثانياً: أنها لكي تتفرغ بأفضل نوعٍ وتعتني بأكمل طريقةٍ في إتقان هذه الفضيلة، قد أرادت أن تكون من حين تمام السنة الثالثة من عمرها منفردةً كحبيسةٍ في هيكل الرب الأورشليمي، حيث كانت فيما بين الأزمنة الأخرى المعينة للصلوات. اختارت لذاتها ساعة نصف الليل أيضاً، التي فيها كانت هي تنهض من رقادها، وتمضي أمام هيكل الرب مثابرةً على الصلاة، حسبما أوحت بذلك هي نفسها للبارة أليصابات الراهبة (كما هو مورد من القديس بوناونتورا في الرأس 3من كتابه على حيوة المسيح).*
ثالثاً: أنها لأجل هذه الغاية كانت فيما بعد تزور بتكاثر الأماكن المقدسة المختصة بميلاد ابنها وبآلامه ودفنه لكي تمارس هناك بأفضل نوع تأملاتها في أسرار حياته تعالى وموته، كما يبرهن العلامة أوديلونه.*
رابعاً: أن صلواتها كلها كانت مصنوعةً منها برصد عقلٍ تام، ناجيةً من كل انعطافٍ غير مرتبٍ. فقد كتب القديس ديونيسيوس كارتوزيانوس: أن البتول المجيدة في حين صلواتها لم يكن يحدث لها شتات الأفكار، ولا عواطف غير ملائمةٍ، ولا أشياء باطنية أو خارجة تعيق فيها تأملاتها بأنوارٍ سماوية في الأشياء الإلهية.*
ولهذا لأجل حبها الشديد نحو ممارسة الصلوات قد أحبت دائماً الانفراد عن الناس، والابتعاد عن ضوضاء العالم، كما أوحت للقديسة بريجيتا: بأنها حينما كانت مقيمةً في هيكل أورشليم قد اجتهدت بألا تواجه أحداً. حتى ولا والديها إلا نادراً. فالقديس أيرونيموس إذ يتفلسف عن كلمات النبي أشعيا القائل (ص7ع14): ها العذراء تحبل وتلد أبناً ويدعون أسمه عمانوئيل: يقول: أن لفظة عذراء في اللغة العبرانية تفسر بالحصر عذراء منفردةً عن الناس: فإذاً حتى من النبي المذكور عينه سبق الإيعاز عن محبة مريم للانفراد. ويقول ريكاردوس: أن زعيم الملائكة قال لهذه البتول:: افرحي الرب معكِ: لأجل محبتها الوحدة والابتعاد عن الناس”. ولذلك كتب القديس فينجانسوس فراري:” أن البتول القديسة لم تكن تخرج من بيتها إلا حينما كانت تمضي إلى هيكل الرب. وحينئذٍ كانت تنطلق مملوءةً من الاحتشام، وعيناها دائماً ناظرتين إلى الأرض”. ومن ثم حينما مضت إلى زيارة القديسة أليصابات، قد ذهبت مسرعةً، الأمر الذي كقول القديس أمبروسيوس ينبغي أن تتعلم منه البتولات ألا يظهرن مشاعاً، بل يحببن الخلوة. وكتب القديس برنردوس: أن الحب الذي كان متقداً في قلب العذراء المجيدة لممارسة الصلوات والابتعاد عن ضوضاء العالم، قد صيرها أن تجتهد على الدوام في الامتناع عن مخاطبة الرجال. ولهذا قد سماها الروح القدس يمامةً بقوله: ما أشد بهاء وجنتيكِ كاليمامة: (نشيد ص1ع10) فيفسر ذلك فارجالوس:” بأن اليمامة لأجل انفرادها تشير إلى قوة الاتحاد العقلي”. ولذلك العذراء قد عاشت أيام حياتها على الأرض معتزلةً بمقدار ما أمكنها عن الناس في الاختلاء كأنها في قفرٍ غير مسلوكٍ. ولهذا قيل عنها: من هي هذه الصاعدة من القفر كأنها غصن بخور: (نشيد ص3ع6) وعن هذه الكلمات كتب روبارتوس مخاطباً العذراء المجيدة بقوله: كذلك أنتِ قد صعدتِ من القفر إذ كنتِ حاصلةً على نفسٍ محبة الإنفراد.*
أما فيلونه فيقول: أن الله لا يخاطب الأنفس إلا في الإختلاء والوحدة. بل الله عينه قد أوضح ذلك بواسطة نبيه هوشع بقوله: لأجل هذا فهأنذا أتملقها وأوديها الى البرية وأتكلم الى قلبها: (ص2ع14) ولذلك كان يهتف القديس أيرونيموس قائلاً: يا أيها الإنفراد السعيد كم أنت مغبوطٌ، لأن فيك يتفاوض الله والنفس معاً متخاطبين كخليلين. وهذا بالصواب، لأن القديس برنردوس قال: أنه في الإنفراد، وفي الصمت الذي المرء يتمتع به بالتوحد. تلتزم النفس بأن تخرج بأفكارها عن هذا العالم. وتنعكف على التأمل في خيرات السماء.*
فيا أيتها البتول الكلية القداسة أنتِ استمدي لنا محبة الصلاة والإنعطافات نحوها ونحو الإنفراد والإختلاء، حتى إذا ما أنفصلت قلوبنا من محبة المخلوقات، يمكننا أن ننعطف نحو الله وحده، ونتشوق إلى الفردوس السماوي، حيث نرجوا أن نشاهدكِ يوماً ما، لكي نمدحكِ على الدوام، ونحب ابنكِ يسوع ونحبكِ إلى أبد الأبدين.
فقد تفوه الحكيم ابن سيراخ عن لسان البتول الكلية القداسة بقوله: ميلوا إليَّ يا معشر المشتاقين وتمتعوا بغلاتي: (ص24ع26) فغلات مريم البتول إنما هي فضائلها. قال سادوليوس: أن العذراء المجيدة لم يسبقها قط أحدٌ شبيهٌ بها. ولم يأتِ بعدها إنسانٌ مماثلٌ لها. ومن ثم يخاطبها هو نفسه هكذا قائلاً: أنكِ أنتِ وحدكِ أيتها الامرأة قد أرضيتِ المسيح بنوعٍ لا نظير له على الإطلاق.*
فلنتقدم بدالة إلى عرش النعمة، لنأخذ نعمة، ونجد رحمة، لمعونة نستفرصها. (عبرانيين 4/6)
من كان للعذراء عبداً لا يدركه الهلاك أبداً
No Result
View All Result
Discussion about this post