كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
في أخصّ فضائل العذراء مريم
الفضيلة الخامسة: في الرجاء
أن من فضيلة الإيمان تتولد فضيلة الرجاء لأن الله لهذه الغاية ينيرنا بالإيمان لنعرف خيرية صلاحه وصدق مواعيده. وهكذا نرتقي بواسطة الرجاء بعواطف الشوق إلى امتلاكنا إياه تعالى. فإذاً من حيث أن مريم البتول قد كانت حاصلةً على إيمان عظيم، ففازت أيضاً بفضيلة رجاءٍ ثابتٍ وطيدٍ كان يجعلها أن تقول مع النبي والملك داود: خيرٌ لي الالتصاق بالله وأن أجعل على الرب إتكالي: (مزمور73ع28) فمريم هي تلك الابنة عروسة الروح القدس التي قيل عنها: من هي هذه الصاعدة من البرية متدللةً مستندةً على حبيبها: (نشيد ص8ع5) لأنها كانت بجملتها منزهةً عن تعلق القلب في الأشياء العالمية، بعيدةً على الدوام عن الأنعطاف نحو الموجدات الأرضية، معتبرةً العالم بأسره كبريةٍ مقفرةٍ، ولهذا إذ لم تكن تثق بشيءٍ من المخلوقات، ولم تكن تعتمد على شيءٍ من استحقاقاتها الذاتية، فكانت بكليتها مستندةً على حبيبها، أي متكلةً بحسن الرجاء على النعمة الإلهية التي فيها فقط كانت تثق، وعليها وحدها كانت تتكل في حبها الدائم لله ربها. فهكذا يتكلم عنها المعلم أيلغرينوس في تفسيره ألفاظ سفر النشيد المقدم إيرادها، كما يوضح كورنيليوس الحجري قائلاً: أن الصاعدة من البرية تعني الصاعدة من العالم الذي هجر متروكاً منها. واعتبرته نظير القفر، حتى أنها قد كانت لاشت منها كل إنعطافٍ نحوه، واستندت على حبيبها فقط، وذلك لأنها لم تستند على استحقاقاتها الذاتية، بل اعتصمت بنعمة ابنها الحبيب معطي النعم. فالبتول القديسة أظهرت جيداً وأعلنت واضحاً كم كان رجاؤها بالله وإتكالها عليه تعالى عظيماً، وذلك:
أولاً: حينما لاحظت بالكفاية أن خطيبها الطاهر القديس يوسف لعدم معرفته حقائق الحبل العجيب المصنوع بقوة الروح القدس وفعله في أحشائها البتولية حصل قلقاً مرتاباً ومن ثم هم بتخليتها سراً: (متى ص1ع19) ولهذا كان يبان أنها وقتئذٍ وجدت مضطرةً لأن تخبره بسر حبلها، كما أوردنا في الفصل الأول من هذه المقالة. إلا أن هذه البتول لم ترد من تلقاء ذاتها أن تكشف حقائق النعمة التي اقتبلتها، واعتبرت أنه لأفضل لها هو أن تترك الأمر للعناية الإلهية، متكلةً عليها كل الإتكال، مترجيةً بثقةٍ في أن الله عينه لم يكن يغفل عن أن يظهر برارتها، ويحامي عنها بعدم أنثلام صيتها، فهكذا يفسر الإصحاح الأول من بشارة متى الأب كورنيليوس الحجري.*
ثانياً: أوضحت إتكالها بحسن الرجاء على الله حينما رأت ذاتها بالقرب من ساعات ولادتها مطرودةً من بيت لحم، حتى من المنازيل المشاعة. وألتزمت بأن تلتجئ إلى مغارةٍ خارج المدينة لتلد هناك رب المجد، كقول البشير لوقا: فولدت ابنها البكر ولفته بلفائف ووضعته في مذودٍ. لأنه لم يكن لهما موضعٌ لينزلا: (ص2ع7) فهي لم تتفوه بكلمةٍ ما ذات تذمر، بل فوضت أمرها لله بكمال الإتكال، واثقةً بأنها في ظروفٍ هذه صفتها كانت تفوز بالإسعاف والمعونة منه تعالى.*
ثالثاً: ومثل ذلك أعلنت حسن رجائها بالله حينما أخبرها القديس يوسف بالوحي الذي بواسطته أمر من قبل الله بأن يأخذها مع طفلها الإلهي، ويهربوا معاً إلى مصر من رجز هيرودس. فهي حالاً في تلك الليلة عينها أخذت بالمسير مبتدئةً بسفرٍ شاسع المسافة إلى بلادٍ مجهولةٍ منها، خلواً من احتياجات السفر ومن دون مال، وخلواً من خادمةٍ أو رفقاء سوى طفلها وخطيبها، بل قاموا ليلاً وأخذوا بالمسير إلى مصر (متى ص2ع14).*
رابعاً: أنها أظهرت بأبلغ نوع رجاءها بالله عندما ألتمست من ابنها صنع الأعجوبة في عرس قانا الجليل، لأنها بعد أن قالت له: أن ليس عندهم خمرٌ: وهو أجابها: مالي ولكِ أيتها الامرأة لم تأتِ ساعتي بعد: فمع ذلك أي غب أن سمعت منه تعالى هذا الجواب الذي كان يظهر منه أنه أنكر مطلوبها، فلم يضعف فيها الرجاء، بل قالت للخدام: افعلوا كل ما يأمركم به: (يوحنا ص2ع3) كما تم بالحقيقة رجاؤها بأن يسوع أمر الخدام بأن يملأوا الست الأجلجين ماءً وأحال الماء اللا خمرٍ.*
فلنتعلم إذاً من مريم العذراء أن نتكل على الله بحسن الرجاء كما ينبغي لا سيما في الأشياء الملاحظة ذاك العمل العظيم المختص بخلاصنا الأبدي، الذي ولئن كان محتاجاً إلى أعمالنا نحن أيضاً، فمع ذلك يلزمنا أن نرجوا من الله وحده النعمة في أن نحصل عليه، ميؤوسين بالكلية من قوانا الذاتية. وليقل كلٌ منا مع الرسول الإلهي: أنا أقوى على كل شيءٍ بذاك الذي يقويني: (فيليبوسيوس ص4ع13):*
فيا أيتها البتول أمي الكلية القداسة. أنكِ أنتِ هي أم الرجاء المقدس. كما تقولين عن لسان ابن سيراخ: أنا هي أم المحبة الجميلة والتقوى والرجاء المقدس: (ص24ع24) بل أن الكنيسة المقدسة تسميكِ الرجاء بالذات بقولها نحوكِ: السلام عليكِ يا رجانا: فإذاً أيُّ رجاءٍ أنا أطلب مفتشاً. والحال أنكِ أنتِ بعد يسوع هي رجائي بأسره. فهكذا كان يدعوكِ القديس برنردوس: وكذلك أنا أدعوكِ قائلاً: فيكِ أوطد كل رجائي: وأقول لكِ دائماً مع القديس بوناونتورا: يا خلاص المستغيثين بكِ خلصيني.*
Discussion about this post