الروم الأرثوذكس والمطهر
المطهر عقيدة كاثوليكية. أول ظهورها كان في النصف الثاني من القرن الثاني عشر. قبل ذلك، وفقاً للمؤرِّخ الكاثوليكي جاك غوف، لم يكن لها وجود. محاولة نسبتها إلى الكتاب المقدّس وإلى الآباء القدماء أمثال القدّيس أمبروسيوس والقدّيس أوغسطينوس والقدّيس غريغوريوس الكبير حجّتها ضعيفة بالنظر إلى لَبْس الكلام لدى هؤلاء في الموضوع الذي تطرحه.
هذا وفق العديد من المؤرّخين الكاثوليك أمثال أ. ميشال و إ. غونغار و ج. غوف. غونغار، في هذا الشأن، يدعو الكاثوليك إلى مراجعة مواقفهم في شأن ما هو غير أصيل وغير عميق في تقليدهم.
ما خلاصة عقيدة المطهر؟
بالموت تتعرّض النفس لدينونة خاصة. نفوس الصالحين الذين لم تلوّثهم الخطيئة، بعد المعمودية، تحلُّ في السماء، فيما نفوس الذين لم يعتمدوا ولا زالوا يحملون الخطيئة الأصلية، أو الذين ارتكبوا خطايا مميتة، تنحدر إلى الجحيم (Enfer).
أما الذين ليسوا بصالحين تمامًا ولا بأشرار بمعنى الكلمة وخطاياهم طفيفة (veniels)، فهؤلاء إن لم يَحظوا، قبل موتهم، بالحلّ من خطاياهم أو سومحوا ولم يكن لهم متّسع من الوقت للتوبة إرضاءً للعدالة الإلهيّة، بمعنى مكابدة الجزاء التكفيري اللازم لله عن خطاياهم، فهؤلاء يُجعَلون في موضع مميَّز عن السماء والجحيم يُعرف بـ “المطهر”. في هذا الموضع يطهرون من هذه الخطايا ويتنقّون بجزاء النار.
هذه النار المطهِّرة، التي هي مصدر عقاب تنقوي وتكفيري في آن، هي مؤقّتة، تزول بحلول الدينونة الأخيرة، كما هي مادية. هذه النفوس يجري التخفيف من وطأة عذاباتها بصلوات الأحياء وذبيحة القدّاس الإلهي، وكذلك بمشيئة البابا الذي يهب سماحاً يُصفح، بنتيجته، كليًا وفوريًا، عن راقد أو فئة من الراقدين. هذا والصلوات وذبيحة القدّاس الإلهي لا تنفع الأبرار الذين هم في السماء ولا المدانين في الجحيم، لأنّ هؤلاء وأولئك بلغوا، في النفس، ملئ الحالة التي سوف تكون نصيبهم بعد الدينونة الأخيرة. فالأبرار حظوا بالغبطة في رؤية الجوهر الإلهي فيما يعاقَب المدانون بالنار الجحيمية الأبدية.
الفرق بين حالة هؤلاء قبل الدينونة الأخيرة وبعدها أنّهم بعد الدينونة الأخيرة يكابدون ما هم فيه في أجسادهم. أما الذين يكونون في المطهر، فإنّ تنقيتهم بالقصاص الذي يقضونه يكون قد اكتمل فينضمّون إلى الأبرار.
بالنسبة للروم الأرثوذكس لا عقيدة رسمية بشأن ما بعد الموت. فقط أراء آبائية ورؤى فيها الكثير من التلاقي على شيء من التباين. ما بالإمكان تأكيده أنّ “المطهر” لا وجود له ولا هو مقبول عندهم. ما بإمكاننا أن نستخلص من الآراء الأرثوذكسية يُختصر بالتالي:
بعد الوفاة هناك مكانان تذهب إليهما نفوس الراقدين، قبل الدينونة الأخيرة: الفردوس والهاوية (Hadès). نفوس الأبرار تستقرّ في الفردوس ونفوس الخطأة في الهاوية. كلا الحالين جزئي ومؤقت قياسًا بالحال في الدينونة الأخيرة.
أما الأبرار فيكونون في غبطة غير مكتملة وأما الخطأة ففي عقاب غير مكتمل. ملء هذا وذاك يُبلَغ إليه أبديًا في الدينونة الأخيرة. لا في الكتاب المقدّس ولا عند الآباء مكان ثالث بين الاثنين. أما نفوس المدانين بخطايا طفيفة، وهو ما يدعوه اللاتين بالأجنبية (veniels)، فإن تابوا عنها قبل موتهم وسومحوا فإنّ خطاياهم تُبيَّض بدم الحمل ولا حاجة لا لتنقيتهم بعد الموت ولا لمعاقبتهم. ينضمّون إلى نفوس الأبرار في الفردوس. في الفردوس، وهو غير ملكوت السموات، هناك منازل عديدة يستقر فيها الأبرار على درجات متباينة.
ينعمون بالحرية والراحة ويكونون بجوار الله ويعاينونه بمقدار نقاوتهم. أما نفوس الذين ارتكبوا خطايا طفيفة ولمّا يتوبوا عنها ولا سومحوا فإنّهم ينضمّون إلى كبار الخطأة في الهاوية. ولكن في الهاوية، أيضاً، منازل عديدة. نفوس الخطأة الكبار غير التائبين تستقرّ في الدرجات الدنيا من الهاوية، أما نفوس الذين ارتكبوا خطايا صغيرة فيكونون في درجات عليا. تتمثّل معاناة النفوس في الهاوية في الانحباس في مواضع خربة حزينة حيث يكابدون خوف الحكم والحال الآتية عليهم وكذا عذاب الضمير. غير أنّ النفوس الخاطئة تعاني هذه العذابات بدرجات مختلفة باعتبار الخطايا التي ارتكبتها والتي لم تُسامَح عنها.
هذه العذابات ليست، بحال، عذابات قصاصية أو بقصد إرضاء العدالة الإلهية. هذا مفهوم غريب عن التراث الأرثوذكسي. كذلك ليست هذه العذابات تطهيرية بحال. هنا لا بد أن نأخذ في الاعتبار الطابع المجازي للتعابير المستعملة كالنار والدود وصرير الأسنان وما سوى ذلك. فأما النار فهي القوة الإلهية غير المخلوقة التي تتمثّل كعذاب للمحرومين منها بسبب حال الخطيئة التي هم فيها.
غير أنّ القوة الإلهية عينها تُدرَك كنور ومصدر للفرح للأبرار في الفردوس. أما الجوهر الإلهي فلا يُرى.
هذا ولا طاقة للراقدين، من بعد، على تحقيق خلاصهم ولا سبيل لديهم إلى التوبة. غير أنّ صلوات الأحياء والذبيحة الإلهية في القدّاس الإلهي والحسنات تنفعهم. هذه متى قُدِّمت تنفع جميع الراقدين بلا استثناء. أما الخطأة الذين عانوا خطايا جسيمة فإنّ ما تقدمه الكنيسة لهم يزوّدهم، من الله، بنعمة تخفِّف عنهم بعض الشيء ثقلهم وتعزّيهم دون أن تفضي بهم بالضرورة، إلى خلاص كامل، بعامة.
وثمّة أمثلة قليلة في التراث الأرثوذكسي، عن حالات في الهاوية نجا منها خطأة كبار بصلوات بعض القدّيسين. مثل ذلك صلوات القدّيس غريغوريوس الكبير التي استأصلت من الهاوية الأمبراطور ترايان الروماني وصلوات القدّيسة تقلا التي نجّت امرأة وثنية اسمها فالكونيلا. وفي سيرة القدّيس بائيسيوس الكبير كلام عن إخراج زان مات في الزنى وأُلقي في الهاوية، ثمّ أُخرج من هناك بنعمة يسوع المسيح وصلاة القدّيس بائيسيوس. أما النفوس التي ارتكبت خطايا أقلّ جسامة فيمكنها أن تنتفع كثيرًا من تدابير الكنيسة، المذكورة أعلاه، وأن تُضمّ إلى الأبرار حتى قبل الدينونة الأخيرة.
أما نفوس الأبرار فتنتفع هي أيضًا من صلوات الكنيسة حتى لو كانت بارّة لأنّها لم تبلغ بعد الغبطة الكاملة. غنيٌّ عن القول إن ما يحرزه الراقدون من تقدّم لا يتمّ بصورة آلية ولا قانونية بل هو من عمل رحمة الله استجابة لأدعية المؤمنين وصلواتهم في الكنيسة. من هنا أهمية الصلوات الخاصة والمشتركة للمؤمنين الأحياء لخير الذين رقدوا.
لافتة:
هذه الملاحظات جمعناها من أكثر من مصدر. على أنّ المصدر الأول الذي اقتبسناها منه هو كتاب “الحياة بعد الموت وفق التراث الأرثوذكسي” لجان كلود لارشيه.
No Result
View All Result
Discussion about this post