المسيح
يعرِّفنا عن ذاته
كيف وصلتنا رسالة الخلاص؟
بلغت البشرية رسالة الخلاص في البدايات من خلال كرازة تلاميذ المسيح ورسله، ثم بواسطة إنجيل المسيح المكتوب في البشارة وسفر أعمال الرسل والرسائل والرؤيا، سواء بقراءة كلمة الله أو من خلال الكنيسة في الأسرار والليتورجية والتعليم. وهكذا عرفنا أن بالإيمان بالمسيح مخلِّصًا وحيدًا وبالمعمودية (أي بموتنا وقيامتنا معه) باسم الثالوث الأقدس ننال باكورة الخلاص، فنتبرر وتتقدس الحياة ونتمجد عند المجيء الثاني للرب مُعلناً تمام الخلاص بالحياة معه إلى الأبد.
ولكننا نُدرك بالطبع أن مصدر معرفة التلاميذ والرسل والكنيسة بالمخلِّص ولاهوته ورسالته وتعليمه وأسرار ملكوته، هو الرب يسوع نفسه وأحداث حياته الحافلة وأقواله وأعماله وشهادة النبوَّات وإعلانات السماء التي كان التلاميذ والرسل شهودًا عليها بحسب تكليف الرّب لهم: «وأنتم شهود لذلك» (لو 24: 48). وهكذا انطلقوا يُبشِّرون بما عاينوه وسمعوه واختبروه:
«الذي كان من البدء الذي سمعناه، الذي رأيناه بعيوننا، الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أُظْهِرَت، وقد رأينا ونشهد ونُخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب وأُظهِرَت لنا. الذي رأيناه وسمعناه نخبركم به لكي يكون لكم أيضًا شركة معنا. وأما شركتنا نحن فهي مع الآب ومع ابنه يسوع المسيح» (1يو 1: 1-3).
وفيما بعد فقد سجَّل التلاميذ والرسل شهادتهم في أسفار العهد الجديد. ومن هنا يصْدُق على الرّب القول إنه حقًا: «رئيس الإيمان ومُكمِّله» (عب 12: 2)، كما أن به انكشفت الأسرار وانفتحت أبواب السماء فعرفنا ما لم نكن نعرف عـن طبيعة الله:
«الله لم يَرَه أحد قط. الابن الوحيد الذي هـو في حضن الآب هو خبَّر» (يو 1: 18).
أولاً: المسيح يعلن أنه الرّب ابن الله والواحد مع الآب
في بشارة الملاك جبرائيل للعذراء بميلاد المخلِّص ”يسوع“، أشار إلى أنه يكون عظيمًا: «وابن العليّ يُدعى… ولا يكون لمُلْكه نهاية»،
وقال لها: إن «القدوس المولود منكِ يُدعى ابن الله» (لو 1: 35،33،32).
وقبل أن يبدأ الرّب كرازته، كَشَفَ للبشر ساعة معموديته جانباً من طبيعة الّله، إذ انفتحت السموات وظهر روح الله مثل حمامة نازلًا وآتيًا عليه وسُمِعَ صوت الآب قائلًا: «هذا هو ابني الحبيب الذي به سُررتُ» (مت 3: 17، مر 1: 11).
وفي أحاديثه لتلاميذه بعد بدء خدمته (وهو يذيع أسرار ملكوت الله التي يعرفها – مت 13: 1)، أشار الرّب كثيرًا إلى حقيقة أنه الرّب ابن الله وأنه واحد مع أبيه، كما يتضح من الاقتباسات التالية:
1. فهو الرّب الذي تُوجَّه إليه الطلبات والذي سيقف أمامه الكل في اليوم الأخير:
«ليس كل مَن يقول لي يا رب يا رب يدخل ملكوت السموات» (مت 7: 21-23)، «كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم: يا رب يارب… فحينئذ أُصرِّح لهم: إني لم أعرفكم قط» (مت 7: 23،22)، «فرجع السبعون بفرح قائلين:
يا رب حتى الشياطين تخضع لنا باسمك» (لو 10: 17)، «فيُجيبه الأبرار حينئذ قائلين: يا رب متى رأيناك» (مت 25: 44،37).
2. وهو ”ابن الله الوحيد“ (من حديثه إلى نيقوديموس – يو 3: 18،16) الذي به عرفنا الآب:
«ليس أحد يعرف مَن هو الابن إلاَّ الآب، ولا مَن هو الآب إلاَّ الابن، ومن أراد الابن أن يُعلِن له» (لو 10: 22).
ومن هنا فهو يشير إلى الآب بـ ”أبي“ و«أبي الذي في السموات» (مت 7: 21؛ 10: 33،32؛ 16: 17؛ لو 2: 49)،
ويناديه: ”يا أبتاه“ (مت 26: 42،39؛ لو 23: 34)، و”أبّا الآب“ (مر 14: 36)، ويقول عن الملكوت: «ملكوت أبي» (مت 26: 29).
3. وهو يُصدِّق على شهادة بطرس: «أنت هو المسيح ابن الله الحي» (مت 16: 16؛ مر 8: 29؛ لو 9: 20)، مؤكِّدًا أنها إلهام الآب السماوي وليست كلمات من الشفاه (مت 16: 17).
كما أمَّن على كلام رئيس الكهنة الذي كان يستجوبه إن كان حقًا يقول إنه «المسيح ابن الله» (مت 26: 64،63؛ 27: 43؛ لو 22: 70)، وإنه «المسيح ابن المبارك» (مر 14: 61).
وحتى الشياطين التي كان يُخرجها مِمَّن تسلَّطت عليهم كانت «تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله»، فكان ينتهرهم ولا يدعهم يتكلَّمون بعد أن عرفوه (كي لا يتعارض إعلانهم مع التدبير والأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه) (لو 4: 41).
4. وقد أوضح الرب أن بنوَّته للآب تعني وحدته معه ومساواته له في الجوهر، أي أن ”ابن الله“ لم يكن لقباً شرفياً لا يُعتدُّ به، وهذا ما فهمه رئيس الكهنة وقت المحاكمة وما اعتبره تجديفاً يستحق عليه الموت (مت 26: 66،65).
وبالطبع، لو كان في الأمر شُبهة ادِّعاء لَمَا مضى الرّب فيه إلى نهاية الشوط ويذوق من أجله موت الصليب. وقد تهدَّدت حياة الرب من قبل أكثر من مرة لنفس السبب، فبعد شفاء مريض بركة بيت حسدا وما ذكره الرّب:
«أبي يعمل حتى الآن وأنا أعمل»، يذكر الكتاب: «فمن أجل هذا كان اليهود يطلبون أكثر أن يقتلوه لأنه لم ينقض السبت فقط، بل قال أيضاً إن الله أبوه معادِلاً نفسه بالله» (يو 5: 18،17).
كما حدث عندما أشار الرب إلى أنه كائن قبل أن يكون أبو الآباء إبراهيم، أن اليهود «رفعوا حجارة ليرجموه» (يو 8: 59،58). وفي عيد التجديد وكان الرب يتمشَّى في الهيكل في رواق سليمان، وفي ردِّه على تساؤلات اليهود وشكوكهم ختم كلماته بما أثارهم عند قوله:
«أنا والآب واحد» (يو 10: 30)، فتناولوا حجارة ليرجموه متهمين إيَّاه بالتجديف: «فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهًا» (يو 10: 33)، ولكن الرب ردَّ عليهم قائلًا:
«إن كنتُ أعمل أعمال أبي، فإن لم تؤمنوا فآمنوا بالأعمال لكي تعرفوا أن الآب فيَّ وأنا فيه» (يو 10: 38،37)، وهو ما كرره في حديثه الأخير لتلاميذه ليلة آلامه قائلاً لفيلبُّس: «الذي رآني فقد رأى الآب… ألست تؤمن أني أنا في الآب والآب فيَّ. صدِّقوني أني في الآب والآب فيَّ، وإلاَّ فصدِّقوني لسبب الأعمال نفسها» (يو 14: 9-11).
5. وقد ذكر الرب صراحةً أن كل ما للآب هو للابن: «كل ما هو للآب هو لي» (يو 16: 26،15) (وقال في صلاته الشفاعية للآب:
«كل ما هو لي فهو لك، وما هو لك فهو لي» – يو 17: 10)، وأن الابن يعمل كل ما يعمله الآب (يو 5: 19-21) (ولكن لأن الابن هو الذي كان به الخلاص فصارت الدينونة له وحده – يو 5: 30،29،22).
6. والرب يؤكِّد أن الآب الذي أرسله هو دوماً معه: «ولم يتركني الآب وحدي… وأنا لستُ وحدي لأن الآب معي» (يو 8: 29؛ 16: 32).
7. والرب يذكر أنه الطريق إلى الآب: «أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلاَّ بي» (يو 14: 6)، كما أن أحدًا لا يقدر أن يُقبِل إلى الابن إن لم يجتذبه الآب (يو 6: 44)، ولأنه والآب واحد فهو مع الآب يضمن خلاص المؤمنين خاصته:
«خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أُعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد، ولا يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني إيَّاها هو أعظم من الكل، ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد» (يو 10: 27-30).
8. مع هذا فإن الرّب مرة واحدة أراد أن يُظهِر كيف أنه قد أخلى نفسه تمامًا، وأن ظهوره في الجسد يخفي مجده الحقيقي، وهو ما أشار إليه في صلاته الأخيرة طالباً من الآب أن يُمجِّده في صليبه وموته:
«والآن مجِّدني… بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم» (يو 17: 5). ومن هنا فقد بيَّن لتلاميذه في حديثه الأخير لهم ليلة آلامه أنه ينبغي أن يفرحوا لصعوده إلى السماء عائداً إلى مجده ومجد أبيه الذي هو أعظم بما لا يُقاس مما كان عليه في الجسد (إلاَّ في مواقف بعينها أظهر فيها مجده المُخْفَى):
«لو كنتم تحبونني لكنتم تفرحون لأني قلتُ أمضي إلى الآب لأن أبي أعظم مني (وأن مجدي الحقيقي أعظم مما ترون، وهو ما أخفيته كي أكون عبدًا طائعًا وابنًا للإنسان شريكاً له في آلامه وتجاربه وحتى الموت)» (يو 14: 28).
ثانياً: المسيح يُعرِّفناعن الروح القدس
1. في مشهد غير مسبوق ظهر الروح القدس (مثل حمامة) نازلاً من السماء على الرب الصاعد لتوِّه من الأردن بعد عماده من يوحنا المعمدان، وهو الحدث الذي عرفته الكنيسة باسم:
”الثيئوفانيا“ أو ”الظهور الإلهي“ (مت 3: 16؛ مر 1: 10؛ لو 3: 22). فدخول الابن إلى العالم كان تمهيداً لتحقيق الوعد الإلهي بأن يسكب الله روحه على البشر (يؤ 2: 28-32)، وهو ما أشار إليه الرب ضمن كلماته الأخيرة لتلاميذه قبل صعوده: «وفيما هو مجتمعٌ معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني، لأن يوحنا عمَّد بالماء وأما أنتم فستتعمَّدون بالروح القدس ليس بعد هذه الأيام بكثير» (أع 1: 5،4)؛
وهو أيضاً ما أشار إليه القديس بطرس في خطابه يوم الخمسين وقد تحقَّق الوعد القديم الذي سجَّله يوئيل النبي بانسكاب الروح القدس على البشر (أع 2: 14-21).
2. وقد كشف الرب لتلاميذه ولكل المؤمنين عن دور الروح القدس المساند لهم وقت اضطهادهم، لأنه روح الكرازة والقوة، وهو الشفيع والمدافع عن الإيمان، والذي ينزع الخوف عن الكارزين ويتكلَّم فيهم أمام المقاومين:
«فمتى أسلموكم فلا تهتموا كيف أو بما تتكلَّمون لأنكم تُعطَوْن في تلك الساعة ما تتكلَّمون به، لأنكم لستم أنتم المتكلِّمين، بل روح أبيكم الذي يتكلَّم فيكم» (مت 10: 20،19)، «… لأن الروح القدس يُعلِّمكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوه» (لو 12: 12).
3. وفي حديثه الطويل الأخير لتلاميذه ليلة آلامه أخذ الرب يكشف لهم عمَّا سيمرُّ بهم بعد قليل، مُبيِّناً أنه لن يتركهم يتامى بل أنه سيأتي إليهم في الروح القدس المعزِّي (يو 14: 18)، وألقى الضوء على عمل الروح القدس في الكنيسة والمؤمنين ودوره في العمل الخلاصي بعد صعود الرب من مَنْح المبشِّرين بالخلاص قوة الكرازة وعمل الآيات والصمود أمام القوى المضادة، وإعداد القلوب للإيمان وقبول المخلِّص، والسلوك في حياة القداسة، وطاعة الكلمة والانفتاح على الحياة الأبدية،
كما أنه روح الحق الذي يشهد ويُصدِّق على عمل الابن ويذكِّر بما قاله وعمله، آخذاً مما له وفائضاً به على الكنيسة، والذي يوحي ويكشف عن المستقبل ويعدُّ للمجيء الثاني للرب:
+ «وأنا أطلب من الآب فيُعطيكم مُعزياً آخر (فالمسيح هو معزِّيهم الذي سيُفارقهم بالجسد) ليمكث معكم إلى الأبد، روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يقبله، لأنه لا يراه ولا يعرفه. وأما أنتم فتعرفونه لأنه ماكثٌ معكم ويكون فيكم» (يو 14: 17،16).
+ «وأما المعزِّي الروح القدس الذي سيُرسله الآب باسمي، فهو يُعلِّمكم كل شيء ويُذكِّركم بكل ما قلته لكم» (يو 14: 26).
+ «ومتى جاء المعزِّي الذي سأُرسله أنا إليكم من الآب، روح الحق الذي من عند الآب ينبثق، فهو يشهد لي» (يو 15: 26).
+ «إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزِّي. ولكن إن ذهبتُ أُرسله إليكم» (يو 16: 7).
+ «وأما متى جاء ذاك روح الحق فهو يرشدكم إلى جميع الحق، لأنه لا يتكلَّم من نفسه بل كل ما يسمع يتكلَّم به، ويُخبركم بأمور آتية. ذاك يمجِّدني لأنه يأخذ مما لي ويُخبركم» (يو 16: 14،13).
4. فالروح القدس هو روح الآب والابن، الذي يملأ الكون منذ الأزل وإلى الأبد، والذي بواسطته تنسكب كل نعمة إلهية على الخليقة والبشر، وينال المؤمنون استحقاقات فداء الرب،
ومن هنا كان التجديف على الروح القدس خطيئة كبرى تعني سبق انفصال صاحبها عن الله ومقاومته له وتخبُّطه في الظلام بإطفائه الروح فيه، فتستحيل توبته، وبالتالي يستحيل غفران خطيئته هذه. وقد كان نسْب قوة الله إلى عمل الشيطان واحدة من صور التجديف التي دانها الرب، فهو تجاسرٌ شرير لا يمكن التسامح فيه:
+ «لأنه أية خلطة للبر والإثم، وأية شركة للنور مع الظلمة، وأيُّ اتفاق للمسيح مع بليعال» (2كو 6: 15،14).
+ «لذلك أقول لكم: كل خطية وتجديف يُغفر للناس، وأما التجديف على الروح القدس فلن يُغفر للناس. ومَن قال كلمة على ابن الإنسان يُغفر له، وأما مَن قال على الروح القدس فلن يُغفر له، لا في هذا العالم ولا في الآتي» (مت 12: 32،31؛ لو 12: 10).
5. وكما بدأ الرّب خدمته بإعلان الثالوث يوم معموديته، فإن كلماته الوداعية لتلاميذه ساعة صعوده جمعت معاً أقانيم الثالوث الأقدس الإله الواحد: «فاذهبوا وتَلْمِذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس» (مت 28: 19).
دكتور جميل نجيب سليمان
Discussion about this post