جمعة الصلبوت |
الأب متى المسكين |
كتاب: تأملات في أسبوع الآلام (3) جمعة الصلبوت
(مقالات وعظات كُتبت وأُلقيت في مناسبات متنوعة، ونُشرت ضمن طبعات كتاب: مع المسيح في آلامه حتى الصليب من سنة 1976 إلى سنة 2000).
*******
المقالة الثالثة
موتٌ على موت أو سرُّ القيامة الحقيقية (من مذكرات في حياة التوبة)
منظر المسيح خارجاً من أورشليم حاملاً الصليب وحوله بعض من أقربائه وتلاميذه يشيِّعونه حيث تعيَّن أن يُصلَب، منظر كله عار وفضيحة، ولكن المسيح احتمله من أجل السرور الموضوع أمامه (عب 2:12).
هذه كانت أحرج ساعة في حياة المسيح، ساعة الخروج من أورشليم وعلى أن لا يعود إليها. هذه الساعة الحرجة كانت معروفة مُسْبقاً لدى السماء كلها وكانت موضوع حديث بين أرواح قديسي العهد القديم المنتظرين فداء العالم وخلاصه: «وإذا رجلان يتكلَّمان معه، وهما موسى وإيليا، اللذان ظهرا بمجدٍ، وتكلَّما عن خروجه الذي كان عتيداً أن يُكمِّله في أورشليم.» (لو 30:9و31)
كان خروجه من أورشليم بمثابة خروجه من العالم المنظور، وكان الصليب آلة العبور من العالم إلى خارج العالم. فالخروج من العالم لا يتم طبيعياً بالنسبة للذين أبغضوا العالم وجحدوه، فلابد أن ينتقم العالم من الذين يحتقرونه ويستهزئون به: «إن كان العالم يُبغضكم فاعلموا أنه قد أبغضني قبلكم. لو كنتم من العالم لكان العالم يُحِبُّ خاصته.
ولكن لأنكم لستم من العالم، بل أنا اخترتكم من العالم، لذلك يُبغضكم العالم. اذكروا الكلام الذي قلته لكم: ليس عبدٌ أعظم من سيِّده. إن كانوا قد اضطهدوني فسيضطهِدونكم.» (يو 18:15ــ20)
هذا الكلام قاله يسوع قبل الصليب وقبل المحاكمة وقبل انكشاف خطة القبض عليه وتلفيق التُّهَم واستحضار شهود الزور، وقبل ظهور بوادر الخيانة التي اضطلع بها تلميذه، كصورة للعالم حينما يُسخِّر أقرب المقرَّبين لتعذيب نفوس القديسين.
فالمسيح كان يعلم تماماً ماذا أُعِدَّ له من العالم من بغضة وحقد وخطة مُحكمة لتعذيبه والتنكيل به قبل التخلُّص منه: «وأخذ الاثني عشر وقال لهم: ها نحن صاعدون إلى أورشليم، وسيتمُّ كل ما هو مكتوب بالأنبياء عن ابن الإنسان، لأنه يُسلَّم إلى الأمم، ويُسْتَهْزَأُ به، ويُشتَم ويُتْفَل عليه، ويجلدونه، ويقتلونه…» (لو 31:18ــ33)، «فخرج يسوع وهو عالم بكل ما يأتي عليه.» (يو 4:18)
فالذي يهمنا أن نعلمه تماماً هو أن المسيح لم يكن يستغرب سلوك العالم ضده، بل هو نفسه أعلم تلاميذه أنه لابد أن يصطدم العالم بكل مَن يخرج عليه، ولابد أن يحتقر العالم كل مَن يحتقره، ويستهزئ بكل مَن يستهزئ به. هذا هو عار الخروج الحتمي.
هذا العار حمله المسيح وهو راضٍ عنه كل الرضا، لأنه قد وَضَعَ في نفسه منذ البدء أن يقف ضد العالم ويبغض أعماله الشريرة، وقد عَلِمَ ماذا ينبغي أن يدفع ثمناً لهذا السلوك!
فالعار الذي كان يرمز إليه الصليب الذي حمله المسيح وهو خارج من العالم كان ثمناً حتمياً لخروجه عن العالم. وهكذا صار العار الذي في الصَّلْب، أي الموت العلني مع التعرية الكاملة من كل كرامة، مع الإضافات الجانبية إن أمكن لتكميل الهُزء
والتشفِّي من جَلْد وبُصاق ولطم الوجه والضرب على الرأس، هو ما يمكن أن ينتظره الإنسان الخارج على العالم، الذي نوى أن يطلب المسيح فقط وعزم أن يتبعه!!
وهذه الحقيقة قد جعلها المسيح قاعدة عامة ينبغي أن توضع في الاعتبار الأول عند كل مَن ينوي أن يخرج من العالم ليأتي إليه: «ومَن لا يحمل صليبه ويـأتي ورائي فـلا يقدر أن يكون لي تلميذاً» (لو 27:14)، «اتبعني حاملاً الصليب» (مر 21:10)،
«مَن أراد أن يأتي ورائي، فليُنكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (مر 34:8)، «وقال للجميع: إن أراد أحد أن يأتي ورائي، فليُنكر نفسه ويحمل صليبه كل يوم، ويتبعني.» (لو 23:9)
هذا هو ما يعنيه الرسول بولس بقوله: «لنخرج إذاً إليه… حاملين عاره» (عب 13:13). عار المسيح كان نموذجاً مستوفياً لكل أنواع المهانة والمذلَّة، غير أن لكل إنسان صليباً معيناً.
أي أن لكل إنسان عاره الذي يتفنَّن العالم كيف يُصيغه له من كل صنوف الهوان التي يكرهها.
والذين يريدون أن يتبعوا الرب، لا يستعفون من صليبهم؛ بل يزيدون عليه ويزيِّنونه بأنواع أخرى من الحرمان والتقشُّفات وبالصوم لإذلال النفس الإرادي: «أما أنا… أذللتُ بالصوم نفسي» (مز 13:35).
لأنه معروف من قول الرسول ومن حياة القديسين ومن الاختبار، أنه بقدر ما يُذلَّل الإنسان ويموت بغير إرادته وبإرادته معاً، بقدر ما يحس بالحياة الأبدية تنبعث في أعماقه ويعيشها يوماً فيوماً.
Discussion about this post